تقترب إسرائيل من إنهاء حربها العسكرية الواسعة في قطاع غزة، وإن كانت تصرّ على استمرارها «حتى تحقيق أهدافها». وإذ وصل الجيش الإسرائيلي، عسكرياً، إلى حدود القوة، فهو يظل غير قادر على التراجع بلا أهداف محقّقة، وغير قادر في المقابل على الاستمرار بالوتيرة نفسها في ظل الأثمان الكبيرة التي يدفعها. وعليه، فإن استمرار الحرب كما هي عليه الآن، خلال الأسابيع القليلة المتبقّية لها، هو استمرار في السعي إلى تحقيق الهدف نفسه، من دون تغيير في النتائج. في المقابل، جاءت التطورات الأخيرة في مفاوضات تبادل الأسرى، محمّلة بالدلالات في ما يتصل بوضع فصائل المقاومة، وأبرزها أن حركة «حماس» ترفض صفقة تبادل جزء من الأسرى لديها، ممن تحتجزهم في منطقة كانت إسرائيل أعلنت سيطرتها عليها. لا بل هي لم تعد ترضى بهدن مؤقّتة، وتريد أن يكون قرار إنهاء الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، جزءاً من أي صفقة مقبلة.عملياً، يمكن القول إن إسرائيل أنهت المناورة البرية في شمال غزة، ولم يعد لديها هدف يمكن لقدرتها العسكرية أن تحقّقه، إلا في حال قرّرت تحمّل أثمان، لا تريد ولا تقوى على تحمّلها، علماً أن أجزاء يُعتد بها في الشمال فوق الأرض، وأخرى واسعة جداً تحت الأرض، لا تزال تحت سيطرة «حماس» وفصائل المقاومة، وهو واقع يُرجَّح أن يبقى كذلك، حتى نهاية الحرب. وكما فعلت في شمال القطاع، تعمل القوات الإسرائيلية في الجنوب على استهداف ما تسميه البنى التحتية لحكم «حماس»، أي مداهمة وتدمير المراكز والمؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية ودور سكنية فيها مراكز حكومية أو حزبية، إضافة إلى مراكز ومؤسسات خدماتية، تربوية وصحية واجتماعية. ففي محيط مدينة خانيونس ومخيمها والمناطق الأخرى القريبة منها، وتحديداً ما يقع بينها وبين الحدود مع أراضي عام 1948، تنشغل القوات الإسرائيلية، بقوام فرقة عسكرية مقاتلة، مع عدد من ألوية النخبة والوحدات الخاصة، بالبحث عن قادة المقاومة، وتحديداً ثلاثي القيادة في «حماس»: يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى. ويراهن العدو على أن النجاح في قتل أيّ منهم، يؤمّن صورة نصر مطلوبة، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة اللاحقة من الحرب، الأقل وطأة وشدّة وتطلباً للأثمان.
«إذا كان هدف إسرائيل من استمرار الحرب هو قتل شخص واحد، فهذا يعني أنها وصلت إلى حضيض وجودها»


لكن كما يرد في تعليقات عبرية محبطة، فإنه «إذا كان هدف إسرائيل من استمرار الحرب على غزة، هو قتل شخص واحد، فهذا يعني أنها وصلت إلى حضيض وجودها»، وإن «الأمل في ظهور صورة النصر من خلال القضاء على السنوار هو أمل صادق، لكن الإستراتيجية لا يمكن أن تُبنى على الآمال». ومع ذلك، ووفقاً للتسريبات، ثمة على طاولة صنع القرار في تل أبيب، من يدفع إلى الانتقال إلى أقصى جنوب قطاع غزة، خلال ما يسمى بالوقت المتبقّي لـ«الحرب الشديدة» عبر نقل القتال البري إلى هناك، وتحديداً مدينة رفح ومخيمها، «لعل وعسى نجد السنوار هناك». إلا أن القرار لم يتبلور بعد، وهو موضع شك كبير، خاصة أن مصالح الولايات المتحدة ومصر هي جزء لا يتجزّأ من مقدّماته، وتحديداً في ما يتعلق بنطاق تنفيذ مناورة كهذه.
تبقى الإشارة إلى أن الحديث عن المرحلة الثالثة من الحرب، وما يتعلق بالترتيبات السياسية والأمنية في قطاع غزة في اليوم الذي يليها، عاد ليُلاحَظ أكثر من ذي قبل في وسائل الإعلام العبرية، وإن كان المسؤولون الإسرائيليون، من أصحاب القرار، لا يزالون يتجنّبونه، أقله في العلن. ويتولّى الحديث عن المخارج السياسية، عدد من الخبراء والمعلّقين، ومن بينهم أصحاب خبرة وممارسة، ممن خدموا طويلاً في مراكز القرار، سياسياً وأمنياً واستخباراتياً. وبغضّ النظر عن المقاربات المتداولة، يجدر الوقوف على أسباب عودة هذا الحديث، وهو صمود حركة «حماس» والفصائل الأخرى أمام العملية البرية الإسرائيلية، رغم المجازر التي واكبتها. فالصمود منع تحقّق الإنجازات الإستراتيجية للحرب - وإن حقّقت إسرائيل مكاسب تكتيكية في أكثر من اتجاه ومستوى -، بل وصدّ الخيارات البديلة للانتصار نفسه. ولعل ذلك هو أحد الأسباب الرئيسية لاقتصار النخبة على المطالبة ببلورة مخارج سياسية، من دون اقتراح أيّ منها.
في خضمّ ذلك، لا يزال الجمهور الإسرائيلي على توقّعاته ومطالباته باستمرار الحرب إلى أن تحقّق أهدافها، من دون أن يطرأ أي تغيير يُعتد به إلى الآن على توجهاته، وهو ما يُربك صانع القرار الإسرائيلي، وتحديداً القيادة السياسية ورأسها، بنيامين نتنياهو، ويحدّ من خياراته، دافعاً إياه إلى الإبقاء ما أمكن على الحرب، وإن كانت أهدافها «مزيداً من الشيء نفسه»، علماً أن حالة كهذه تخدم مصلحته الشخصية، بلا جدال. ومن هنا، لا يمكن ترجيح سيناريو على آخر بخصوص مآلات الحرب أو توقيتاتها؛ إذ إن الاستمرار بنسختها الحالية أو الانتقال فيها من مرحلة إلى أخرى، مرتبط باللحظة التي يُتّخذ فيها القرار، وهو لا يأتي نتيجة سياق مخطّط له مسبقاً، بعدما ثبت أن التخطيط المسبق مع تعديلاته المتواصلة، باءت كلّها بالفشل.