غزة | بعد نحو ثمانين يوماً من تهجير أهلها، وسبعة وخمسين يوماً من التوغل البري فيها، انسحبت قوات الاحتلال، أخيراً، من مدينة بيت حانون أقصى شمال قطاع غزة، تاركةً خلفها دماراً وخراباً هو الأعظم بين كلّ ما رصدناه في الشمال. الطريق إلى المدينة، والشذي يمتدّ على طول ثلاثة كيلومترات، لا يقدم أيّ انطباع عن حجم الهول الذي يتبدّى من لحظة وصولك إلى مبنى البلدية، وهو البداية الفعلية للكتلة العمرانية الكثيفة في البلدة. هناك، تحوّلت ساحة بيت حانون المركزية، أو «الكراج»، إلى «سافية» ترابية برمال صفراء، محاطة بالدمار من الجهات الأربع. أمّا المراكز الحكومية والمحال التجارية والنادي الرياضي والمستشفى ومبنى البريد، فكلّها سُوّيت تماماً بالأرض. على أن كلّ ذلك ليس سوى قمّة جبل الجليد؛ إذ إن الدخول عميقاً إلى أحياء المصريين والبورة وشارع النعايمة والبنات، يُعيد تعريف ما تعنيه مفردة «الخراب» لديك مجددّاً.هنا، لم يستطع الأهالي التعرّف إلى الحارات التي كانت فيها منازلهم. بوسعك أن ترى أفقاً لا تعترضه بناية واحدة قائمة على أعمدتها. من وسط الأتربة والغبار، كانت تتبدّى أجساد العائدين. حين حاولت أن تستنطقهم «الأخبار»، داهمهم الصمت والوجوم. وحده الحاج الستيني، أبو محمد المصري، استطاع أن يتحدث، قائلاً: «هذا خراب ما صار في الحروب العالمية الأولى والثانية، أنا ساكن في بيت حانون من 40 سنة، والله هيني راجع وما عرفت حارتي ولا داري». غالب الرجل دموعه وقهره، وأردف وهو يشقّ طريق العودة إلى مركز الإيواء: «حسبنا الله ونعم الوكيل، هذا جيش هذا، مش قادر ع الشباب إلي أذلوه وأهانوا كرامته، انتقموا من البلد». نقول له: «الله يعوضكم خير يا حاج»، فيجيب: «المهم إحنا ضايلين ع قلوبهم... إلي بيعيش بعمر يا ابني» .
البلدة النائية الوادعة التي كان يسكنها نحو 53 ألف نسمة، هي خطّ التماس الأول المحاذي للحدود الشمالية الشرقية للقطاع. في نهايتها يقع معبر بيت حانون (إيرز) الذي يربط غزة بالأراضي المحتلة عام 1948. منذ بداية الانتفاضة الثانية عام 2000، دفعت بيت حانون فاتورة مربعة من الدماء. هُدمت مساحات واسعة منها في حرب عام 2014، واعتُقل المئات من أهاليها أيضاً. لكن المشهد الحالي فيها مختلف تماماً؛ إذ إننا لا نتحدّث عن خراب جزئي يمكن ترميمه وإعادة الحياة إليه في غضون أشهر أو حتى سنوات، إنّما عن منطقة مُسحت تماماً عن الخريطة، وأضحت بحاجة إلى إعادة البناء من مرحلة الصفر.
في الطرف الشرقي من المدينة، حيث النقطة التي تفصلنا عن المكان الذي تتمركز فيه دبابات العدو، لم نشاهد أيّ جثمان لشهيد. لا جثث متحلّلة في الشوارع، إنما بقايا لجماجم بشرية وهياكل بدا واضحاً أنّ أصحابها قُتلوا قبل ثمانين يوماً. في المنطقة ذاتها، ستبدأ بمشاهدة ما خطه الجنود من شعارات باللغة العبرية، وستشاهد أيضاً بقايا الدبابات ومعدات الجنود الملطخة بالدماء. انسحبت الآليات أخيراً، بعدما سجلت بيت حانون لذاتها زخم العمل العسكري الأكبر منذ بداية الحرب. واصل المقاومون العمل حتى يوم الانسحاب الأخير، في المنطقة التي بدأ الغزو منها جواً ثمّ برّاً. فكيف سيكون الحال في المناطق التي شرع العدو في العمل فيها في أيام القتال الأخيرة؟ بالنتيجة، لا أفق لانتصار عسكري في القطاع. هذه حقيقة تثبتها الوقائع.