لا شك أن أكبر وأخطر ما ميّز العام المنصرم، فلسطينياً وإقليمياً، وحتى لبنانياً، وخصوصاً منذ السابع والثامن من أكتوبر الماضي، هو عملية «طوفان الأقصى»، ثم العدوان على غزة. يتصل بذلك مسارعة «حزب الله» في لبنان إلى إعلان تضامنه مع مقاومة وشعب غزة، سياسياً وعسكرياً، ضد الهجوم البربري الصهيوني، بمشاركة أميركية وأطلسية، والذي تحوّل إلى حرب إبادة همجية ضد قطاع غزة بشراً وعمراناً ومرافق عامة من كل نوع.في لبنان نتجاوز، مع انتهاء عام 2023، أكثر من أربع سنوات عجاف من تاريخ افتضاح وانفجار عملية النهب الشاملة وغير المسبوقة للشعب اللبناني، مقيماً ومغترباً، وكذلك لعشرات الآلاف ممن أودعوا أو وظّفوا، من غير اللبنانيين، ظناً منهم أن ما كان يروَّج عن قوة ومناعة النظام المصرفي اللبناني، هو حقيقة وليس وهماً وخداعاً كما تبين، لاحقاً، بصورة كارثيّة! كشفت سرقة القرن تلك، ثم ملابسات انفجار مرفأ بيروت (آب 2020) والتحقيق وانقطاع التحقيق بشأنه، الصلة العضوية ما بين أسباب حصولها وبين النظام السياسي والاقتصادي والمعروف باسم «النظام الاقتصادي الحر». بلغت درجة التمسك والمباهاة بالنسخة اللبنانية «المميزة» لهذا النظام، حد إدراجه في «مقدمة الدستور» عبر النص الآتي: «النظام الاقتصادي حر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة» (إضافة «الطائف»). تسوية «الطائف» كرَّست ولم تُضف. التمسك بالاقتصاد «الحر» قائم وممارس منذ التأسيس وعلى امتداد بلورة لبنان في كيانه المعاصر: من نظام القائمقاميتين إلى «لبنان الكبير» (1926)، إلى الاستقلال عام 1943...
في امتداد ذلك تخطّت «الحرية الفردية» المطلقة والفالتة، في «المبادرة» و«الملكية»، الأفراد إلى الجماعات الطائفية التي انتقلت من تنوعات وتمايزات دينية-اجتماعية، إلى مكونات في الدولة وبالدولة (مهدي عامل). ثم تحوّلت، بقدرة، ولمصلحة مستفيدين من رجال دين ودنيا، إلى دويلات تتحاصص موارد البلاد ومراكز النفوذ والسلطة والنشاط فيها... بما في ذلك الحقول الأمنية والقضائية والتربوية والثقافية والرياضية.
تبلور ذلك في مزيج تركيبي عضوي، سياسي واقتصادي، بلور، بدوره، فوضى «لذيذة» سوّقتها البورجوازية اللبنانية بوصفها «أُعجوبة وحكاية نجاح وفرادة وحريات وازدهار»، لكنها كانت، في الواقع، خلطة خطيرة تحولت، بتعاظم الاختلالات وطغيان الجشع وانعدام الرقابة والمحاسبة، وبالارتهان للقوى الاستعمارية خصوصاً، إلى أكبر جريمة سرقة نهب وانهيار، في لبنان، وربما، في العالم!
تواصل منظومة التحاصص والنهب ممارساتها في تعطيل المؤسسات وربطها بتنافس وصراعات فئوية أو موجهة من الخارج


مع دخول الأزمة الكبرى عامها الخامس تبين أن الطبقة الحاكمة، الممثلة للبورجوازية اللبنانية الكبرى وللبيوتات الإقطاعية الراسخة، كانت تدير مشروع تحاصص وهيمنة ونهب محسوباً ومحصّناً جيداً: بالطائفية، وبأشكال أخرى من النزعات والعصبيات والحمايات الأجنبية. وهي غذّتها واستخدمتها أداة لكسب النفوذ والشرعية اللذين ما لبثا أن تكرسا في صيغة كوتا سلطوية للتقاسم والإدارة والاحتكار. تكونت إثر ذلك منظومة معززة أيديولوجياً بأضاليل من نوع أن لبنان وصيغة حكمه وجها حقيقة واحدة، إذا زال أحدهما (أو حتى تغير) زال الآخر! في خدمة ديمومة هذه المعادلة جرى قمع، أو إجهاض، أو تعطيل، كل محاولات الإصلاح، وآخرها إصلاحات «الطائف»! وبهذا السلاح، أساساً، تم التصدي للانتفاضة التي جذبت مئات الآلاف إلى ساحات الاحتجاج، والتي افتقرت إلى القيادة القادرة والكفوءة والحريصة. الولايات المتحدة الأميركية، بدورها، غذت ورعت واستغلت وشوهت أسباب ونتائج الأزمة والمسؤوليات، في خدمة أهدافها الإقليمية. وهكذا أفلتت قوى ومنظومة التحاصص من العقاب، وجدّدت شرعيتها، ولم يُحاسب أحد، وكأن شيئاً لم يحصل! وها هي تواصل سيرتها وسياساتها وممارساتها في النهب والتسلط والاستنزاف والتبعية دونما حسيب أو رقيب.
في مؤلفه بعنوان «نحن والطائفية» كتب الرئيس سليم الحص من موقع الخبرة والمعاناة في السلطة وخارجها: «نحن من الذين يعتبرون الطائفية آفة لبنان المركزية»! يمكن تبني هذه الخلاصة بالكامل مع التشديد على أن الكوتا الطائفية في السلطة هي أداة الطبقات البورجوازية الكبرى لفرض وإدامة سيطرتها، متفلتة، بقوة تأثير العصبيات العمياء، من كل مساءلة ومحاسبة عن الارتكابات حتى لو كانت بحجم نهب الدولة والمواطنين، ومخالفة الدستور، والنيل من سيادة الدولة في الداخل لمصلحة الدويلات، والتهاون بشأنها حيال الخارج الذي ترتهن له في السياسة والاقتصاد، وبه تستقوي في الصراعات الداخلية للحفاظ على الامتيازات أو لتعديل الحصص، ودائماً... على حساب مصالح الوطن والمواطن!
بسبب ذلك، ومن دون الحاجة إلى الاستطراد، يراوح لبنان في الأزمة القاتلة التي تفجّرت في 17 تشرين الأول 2019. رفضت منظومة السلطة التحاصصية أن تقدّم حتى كبش محرقة: لكي لا يشكّل ذلك سابقة محاسبة أو عقاب ولو رمزية! هذا ما جسّده بقاء حاكم مصرف لبنان السابق في منصبه حتى اللحظة الأخيرة. أقيمت دعاوى ضده في ثلاث دول غربية. صدرت بحقه، أخيراً، مذكرات بحث وتحر، ظلَّت من دون تنفيذ بداعي عدم معرفة إقامته، فيما كان يحتفل في البنك المركزي، مع مساعديه، مودّعاً بالهتاف وبطبل وزمر، وأمام عدسات وسائل إعلام حوّل معظمها إلى أبواق له على حساب المال العام، ووفقاً لمعادلة «أعطى من لا يملك لمن لا يستحق».
تواصل منظومة التحاصص والنهب ممارساتها في تعطيل المؤسسات وربطها بتنافس وصراعات فئوية أو موجهة من الخارج. ويدور الكلام هنا عن مواقع «سيادية» كرئاسة الجمهورية التي تنتظر الموفد الرئاسي الفرنسي الخائب لإخراجها من دوامة التجاذب والصراعات. أمّا رئاسة الحكومة، ففي حالة «تصريف الأعمال». وهي تسمية تصح فقط على الفترات القصيرة والاضطرارية وليس على أشهر وسنوات. في مجرى ذلك، تكثر النزاعات والاجتهادات بما يفوق طاقة الدساتير التي وضعت لمعالجات الاستثناء المؤقت على القاعدة، وليس الاستثناء الدائم الذي أصبح قاعدة وتقليداً لبنانياً عريقاً! تكثر، في السياق، التدخلات الخارجية الفجة والمهينة، كما حصل في قيادة الجيش: الموقع السادي الكبير هو الآخر!
تكابد أكثرية المواطنين الساحقة معاناة قاسية، و«بهدلة» وقحة، بسبب الإفقار، وانعدام الخدمات الضرورية وغلاء المعيشة وغياب كل أشكال الضمانات وتردّي أوضاع القطاع التربوي التعليمي وهجرة الكفاءات... ما سيترك نتائج سلبية ضخمة على مستقبل البلد وأجياله الشابة. يجري كل ذلك وسط محاولة دؤوبة لحجب الخلل في النظام السياسي الاقتصادي، ووسط ضعف وهامشية متمادية لقوى المعارضة الوطنية ذات التاريخ العريق والمساهمات المشهودة.
لا بد من التنويه، أخيراً، بعلامة مضيئة، لقد ابتدع الشعب اللبناني، في خضم صراعه مع العدو الصهيوني، تجربة رائدة في حقل المقاومة والتحرير. تعرّضت هذه التجربة، في كل مراحلها لتآمر متواصل، من قبل الخارج والداخل. هي تكاد تتفرد، الآن، للشهر الثالث على التوالي، بممارسة واجب وطني وقومي وإنساني نصرة للشعب الفلسطيني البطل والمضحي والذي يتعرض لأبشع أنواع المجازر والإجرام والحصار والإبادة بهدف تصفية قضيته، ومعها ضرب كل نزوع تحرري لرفع الهيمنة الاستعمارية في المنطقة.

* كاتب وسياسي لبناني