يُعيد اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، الشيخ صالح العاروري، وعدد من قادة «كتائب القسام» وكوادرها في الضاحية الجنوبية لبيروت، أول من أمس، إحياء سياسة الاغتيالات التي انتهجتها إسرائيل على مدى عقود طويلة، وبشتى الوسائل ضد قادة سياسيين وميدانيين في فلسطين وخارجها. ويُعيد أيضاً، طرح السؤال الدائم حول جدوى هذه السياسة، وهو أمر سبق أن تم تناوله في الساحة الإسرائيلية في أكثر من محطة. ويمكن القول إن التقييم العام لنتائج هذه السياسة، يحظى بنوع من التسالم في كيان العدو، بأنها لم تؤدِّ إلى اجتثاث التهديد الذي تمثّله قوى المقاومة، وأحياناً أعطت نتائج عكسية، ولكن ذلك لا يعني أنها لم تحقّق نتائج مهمة ومتفاوتة، وإن كانت في مجملها ظرفية.بعيداً عن البحث النظري والقانوني حول هذا النمط من القتل، فإن أغراض سياسة الاغتيالات تتراوح بين الردع ومنع تنفيذ عملية وشيكة، ومحاولة تحقيق مكسب سياسي أو أمني، بالإضافة إلى رفع معنويات الجمهور والانتقام والردّ على عملية موجعة. وهو تقييم استقرائي عام لأكثر من 2700 عملية اغتيال نفّذتها إسرائيل في تاريخها، بحسب الخبير بالشؤون الأمنية، رونين بيرغمان.
اغتيال الشيخ العاروري، أتى ضمن سياق حرب العدو على حركة «حماس»، وهي حرب لا تزال بعد مضي نحو ثلاثة أشهر، تحظى بتأييد غالبية الجمهور الإسرائيلي. وتلبّي أكثر من مطلب سياسي وأمني وردعي مفترض وفقاً للحسابات الإسرائيلية، إضافة إلى ما تنطوي عليه من أبعاد ورسائل في أكثر من اتجاه، تتّصل بالمكان والزمان والأسلوب والسياق والتوقيت.
صحيح أن اغتيال العاروري كان بنداً دائماً على جدول أعمال قادة العدو، إلا أن استهدافه أصبح، إلى جانب بقية المنظومة القيادية لحركة «حماس»، أكثر إلحاحاً بعد «طوفان الأقصى»، وفي أعقاب فشل جيش العدو في تحقيق الأهداف المرسومة وبدء الانتقال إلى المرحلة الثالثة بناء على طلب أميركي. وتُعتبر الاغتيالات والضربات المركّزة أحد أهم عناصر المرحلة الثالثة، بحسب التسمية الإسرائيلية، كبديل عن الحرب المكثّفة. مع ذلك، تندرج عملية الاغتيال أيضاً، ضمن إطار توسيع دائرة العدوان عبر استهداف كل ساحة وشخصية لها دور في إسناد المقاومة والشعب الفلسطيني في قطاع غزة ودعمهما. ولذلك تأتي عملية الاغتيال أيضاً امتداداً لاغتيال القائد الإيراني في «قوة القدس» في الحرس الثوري رضي موسوي، الذي كان له دور مركزي في إمداد قوى المقاومة بالسلاح على مدى سنوات طويلة. وفي الحسابات الإسرائيلية الداخلية، تشكّل عملية الاغتيال نوعاً من «الصورة» التي يبحث عنها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، والقيادتان السياسية والعسكرية، بعد الفشل في تحقيق انتصار إستراتيجي.
في الأحوال كلها، تحتل عملية الاغتيال مكانة رئيسية في الإستراتيجية الإسرائيلية، ولذلك تُعتبر من السمات الأساسية للسلوك الإسرائيلي وأداة جوهرية في مواجهة أعداء الكيان. وتملك الأجهزة الأمنية والاستخبارية في إسرائيل خبرة كبيرة في هذا المجال. مع ذلك، فإن عمليات الاغتيال أصبحت بالنسبة إلى إسرائيل أقلّ تعقيداً. ففي السابق، كانت تتطلّب وجوداً مباشراً لعناصرها على الأرض لتنفيذ الجزء الأكبر منها أو تنشيط العملاء لجلب معلومات محدّدة، ولكن التكنولوجيا اليوم جعلت الاغتيالات أسهل بكثير، ومكَّنت إسرائيل من الحصول على كثير من المعلومات بسهولة.
وبحسب دراسة صادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي، استندت قرارات الاغتيال منذ تأسيس الكيان إلى معايير ثابتة، من أبرزها عامل الجغرافيا ومدى القدرة على الوصول إلى الهدف في توقيت مناسب من دون التعرّض إلى مخاطر أو أضرار، وكذلك مدى أهمية الهدف ومكانته التنظيمية ومدى تأثير غيابه في تماسك حزبه، إضافةً إلى الغاية الأسمى من اغتياله، سواء بدافع الانتقام أو لنشر حال من الإرباك والشعور بالمطاردة في أوساط زملائه.
بالاستناد إلى المفهوم الذي أوضحه رئيس «الموساد» السابق، مئير دغان، فإن الاغتيالات هي جزء لا يتجزّأ من الإستراتيجية الدفاعية لمواجهة تهديدات الأمن القومي أو حتى تغيير التاريخ في بعض الأحيان. ولتحقيق هذه النتيجة المفترضة، ينبغي أن يكون الهدف نوعياً وخطراً وفعالاً... إلا أن هناك مجموعة من الأسئلة عادةً ما تُطرح في التقييم: هل كان لا بدّ من عملية الاغتيال، وأي نتائج وتداعيات يمكن أن تترتّب على غياب هذه الشخصية القيادية، وهل تتناسب مع مخاطر العملية؟
بالاستناد إلى تجربة الاغتيالات ضد حركة «حماس» تحديداً، فإن النتيجة الماثلة أمامنا أن المقاومة استمرّت وتصاعدت وأصبحت أكثر قوة وخبرة، ولم تنجح كل العمليات في تطويع إرادتها ولا التخلّي عن خياراتها. مع ذلك، فإن مسؤولية الرد على اغتيال الشيخ العاروري ورفاقه، هي مسؤولية محور المقاومة بأكمله، وإن كانت تتصدّره حركة «حماس». أما في خصوص الاعتداء على الضاحية وخرق معادلة الردع التي كانت سائدة، وستبقى، فإن لها حساباً قائماً بذاته، وهذا ما أكّده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه أمس، وتشديده على أنّ الجريمة لن تمرّ من دون ردّ وعقاب.