تذكر الأسطورةُ الإغريقية أنّ باخوس الذي رعى الكروم، وأرشد الناس إلى زراعتها بالدوالي ومباركتها لأنها عريش، وظلال، وعناقيد، وشراب، هو ابن زيوس كبير آلهة اليونان، وابن سيملي، وهي امرأة جميلة من البشر وليست من الآلهة. وحين حملت بباخوس، طلبت من زوجها أن يحقق لها أمنية واحدة، وجعلته يقسم بنهر ستيكس على أن يلبي طلبها، فأقسم، وهذا القسَم لا يستطيع هو أن يحنث به، قالت سيملي: أرجوك أن تسمح لي بأن أراك، وأنت زوجي، وقد أدميت قلبي بحبّك وحنانك ولطفك. كان زيوس، قد هام حباً بسيملي، وهي لا تدري، وطاردها كثيراً حتى انقادت إليه، ويعرف أنّ في طلبها وتحقيق أمنيتها موتها، فمن يرى زيوس كان يموت في الحال، ولذلك حزن لأنه سيفارق سيملي التي استقرت صورتها في قلبه تماماً، إذ لا بدّ له من الإيفاء بقسَمه، وحين شعّ الضوء أمام عينيها برهة، رأت زيوس للحظة واحدة، كانت كفيلة بأن تجعلها تصرخ مدهوشة لهذا الجمال الوحشي المفرد... وماتت. وقد كانت حاملة بباخوس، لذلك استلّه زيوس من خاصرتها، وخبّأه في خاصرته لحين موعد ولادته. وحين جاء موعد ولادته، أرسله مع هرمس رسوله السريع صاحب الخفّين الذهبيين إلى أجمل وديان الدنيا، فما رآه أحد، ولم يعرف مصيره أحد. وقيل إنّ الأشجار، والغيوم، والأمطار، والمياه، والنيران هي التي ربّته، فكان عجينة حياة من هذه الكينونات جميعاً. وحين شبّ واسترجل طاف في البراري لأنه ما كان له من أصدقاء سواها، كان يعرف لغتها، لغة الأشجار التي أحبّ منها الكرمة التي سمّاها شجرة الحنين والأمان، ولغات الغيوم، والأمطار، والحجارة، والأعشاب، والينابيع، والغدران، والشواطئ، شواطئ البحيرات والأنهار والبحار.
وفي طوافه الطويل، كان يعلّم الناس ويرشدهم إلى زراعة الدوالي، وما سيجنونه من زراعتها. ثم عاد إلى بلاده، وحين نزل على أحد الشواطئ، شاهده قراصنة فرأوا في هيئته، وملابسه، وسلوكه، أنه ابن أمير أو ملك، فجماله خارق، وملابسه أنيقة، وتصرفاته في منتهى النبل واللطف، فطمعوا به، وصمّموا على أسره من أجل أن يحصلوا على فدية كبيرة، فاختطفوه إلى سفينتهم، وعلى ظهرها جاؤوا بحبال قوية غليظة ليقيّدوه بها. لكن، هنا كانت دهشتهم، ما استطاعوا تقييده، بل عجزوا عن تقييده، فالحبال ما كانت تطاوعهم كي تلتفّ حول جسده، وقد راحت تتقطّع حالما تلامس يديه أو قدميه، لذلك وقف قبطان السفينة وهو يرى الفتى يبتسم. وقال لهم، هذا الفتى إله، وعليكم أن تطلقوا سراحه فوراً، وإلا حلّ بكم أذى عميم مميت. فسخر منه رئيس القراصنة، واتهمه بالحماقة، وطلب منه أن يرفع الأشرعة وينطلق إلى عمق البحر وإلا سيلاقي حتفه. ففعل، لكن السفينة لم تتحرك، فازداد الجميع دهشة على دهشة، وعمّت السفينة رائحة عناقيد الدوالي الطيّبة. ثم نبتت دالية كبيرة، وسط السفينة، ومدّت فروعها حول الصّارية، فما كان من رئيس القراصنة إلا أن أمر الجميع بأن يفعلوا المستحيل كي تنطلق السفينة، لكنها لم تنطلق. وقد بذل القراصنة جهداً كبيراً، لكي يدفعوها الى وسط البحر، لكنّها ظلّت راسية وكأنها مشدودة إلى جذور في أعماق البحر، ثم ما لبثوا أن فرّوا تاركين السفينة وراءهم وكأنّ خوفهم الأبدي يطاردهم.
تذكّرت هذه الأسطورة، وأنا أقرأ خبر سقوط صاروخين كبيرين مهولين، زنة الواحد منهما ألفا رطل في جباليا، في قطاع غزة. لقد سقطا من سقف بيت كأنهما طيرا سنونو يرومان البيات، واستقرا الى جوار أطفال كانوا نائمين، ولم ينفجرا، مثلهما مثل الحبال التي لم تلتفّ بين أيدي القراصنة كيما تقيّد يدي باخوس وقدميه. وقد أعاد الفلسطينيون، أهل غزة، وعمّروا الصاروخين بما يلزم كي ينفجرا في الوقت المناسب. وقد وضعوهما في طريق الدبابات الذاهبة لدوس الناس في المخيّمات، وحرث المقابر، وطيّ الدروب والطرق، وهدم المدارس والمشافي ودور العبادة. عمروهما ودفنوهما في طريق الدبابات التي يسبقها هديرها الجحيمي، وما إن وصلت إليها حتى تفجّرت، ففرّت أجزاؤها شظايا مكتوية بالنار والخوف، مثلما فرّ القراصنة من السفينة يطردهم خوفهم وهلعهم. والفلسطينيون يعاينون مثلما كان باخوس ينظر إلى القراصنة الفارين إليهم بعينيه الفاحمتين.
نعم، منذ الأزل، أيّها الإسرائيليون العميان، لم يستطع غازٍ صاحب شوكة أن يقيّد هذه البلاد الفلسطينية، مع أنّ كلّ غازٍ امتلك القوة والحبال، وتمتّع بالغرور والحماقة، لكنّهم جميعاً، هنا، وفوق الأرض الفلسطينية، عرفوا بهوت قوّتهم، وأدركوا أسرار ضعفهم، فانهزموا جميعاً، وكلّهم كانوا أهل بأس وغلظة، لكنّهم جميعاً كانوا حمقى كالقراصنة لأنهم ما عرفوا أسرار هذه البلاد. وإن أسرّ لهم أحدٌ (كقبطان السفينة) ببعض السّر، أنكروه بسبب غرورهم واعتزازهم بقوّتهم (قوّة حبالهم، ومتانة سفينتهم وجودة أشرعتهم). هؤلاء الغزاة، والإسرائيليون منهم نسباً وسلوكاً وحماقةً، مآلهم مآل القراصنة، فالفرار مصيرهم، والخوف طاردهم، والمفاجأة هي الدخان الذي سيعمي عيونهم. أولئك القراصنة لم يعوا الفرق الشاسع ما بين الإنسان والإله، ولم يعوا ويدركوا العلامات الشاخصة أمامهم، ولم يحفلوا بأيّ تحذير. وهؤلاء الإسرائيليون أيضاً لم يعوا بعد الفرق الشاسع ما بين صاحب الحقّ وعاشقه، وصاحب الأرض وزارعها، وصانع التاريخ وكاتبه، وبين الغازي المحتل السّارق المغتصب، مع أنّ العلامات جليّة وبادية أمامهم، منذ 75 سنة، تجهرُ بها الأرض مثلما يجهر بها عمرانها، وتجهر بها القرى وأهلها، والكتب، وما فيها من المعاني الثقال القائلة بعلوّ الصوت: هذه البلاد الفلسطينية العزيزة ولدت واقفةً لتعيش واقفةً، وإنها عصيّة على كلّ قيد، وإنّ الظلم، مهما اشتدّ وعبس، لا يقوى عليها، حتى لو صار الحقدُ الأسودُ البغيضُ حبالاً مجدولة من حديد وغضب!