شكّل تزامن وقوع التفجيرَين الإرهابيَّين بالقرب من «روضة الشهداء» في مدينة كرمان، جنوب إيران، مع استمرار تخبّط إسرائيل في حرب غزة، وكونهما ترافقا مع اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، صالح العاروري، في بيروت، وقبله القيادي في «الحرس الثوري» الإيراني، سيد رضي موسوي، في سوريا، سياقاً موضوعياً لاتهام الحكومة الإيرانية، كيان الاحتلال بالوقوف بشكل مباشر أو غير مباشر خلفهما. ومنذ الساعات الأولى، وفي حين راجت معلومات متضاربة حول الهجوم الذي استهدف زوّار مرقد الشهيد قاسم سليماني في مقبرة كرمان، حيث كان هؤلاء يحيون الذكرى الرابعة لاغتياله، كما حول الجهة/ات الضالعة في تنفيذه، ومن جملتها ما أُشيع من معطيات أولية تفيد بوجود عبوتَين ناسفتَين في المكان، وهو ما فسّره مراقبون بادئ الأمر على أنّه مؤشّر إلى ضلوع إسرائيل المباشر في ما جرى، كشفت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية (إرنا) أن أحد التفجيرين نفّذه انتحاري، ما فُهم كتوطئة لتوجيه أصابع الاتهام إلى التنظيمات المتطرّفة، كـ»داعش»، أو «مجاهدو خلق»، إضافةً إلى الجهات الإقليمية والدولية الداعمة لهما.
ثالوث إسرائيل - الولايات المتحدة - الجماعات التكفيرية
على وقْع تلك المعطيات المتفاوتة، كانت الجمهورية الإسلامية تبعث بإشارات مختلفة حول هوية المعتدين، ونطاقات ومديات الردّ الذي يمكن أن تذهب إليه ضدّهم. وتوالت تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتوعّدة لإسرائيل، من أعلى رأس هرم القيادتَين السياسية والروحية إلى أسفله، مع العلم أن وزير الخارجية الجديد لكيان الاحتلال، إسرائيل كاتس، قال قبل أيام إن تل أبيب تخوض «حرباً عالمية» ضد طهران على خلفية برنامجها النووي. وأشار المرشد الأعلى الإيراني، علي الخامنئي، إلى تورط مَن سمّاها بـ»قوى الاستكبار العالمي وداعمي جرائم الصهاينة»، مؤكداً عزم بلاده على توجيه «ردّ حاسم» في وجه المعتدين، وهو الموقف ذاته الذي تبنّاه الرئيس إبراهيم رئيسي، حين تعهد بتدفيع إسرائيل «ثمناً غالياً» على فعلتها. ويوم أمس، وعقب تفقّده جرحى التفجيرَين الإرهابيّين في مستشفى كرمان، وزيارته ضريح سليماني، أكد رئيسي أنّ «المبادرة هي بيدنا وبيد قواتنا»، وأنّ «مسؤولياتنا ستكون مضاعفة تجاه دماء شهدائنا»، في إشارة إلى تمسّك بلاده بالردّ على كيان الاحتلال. ولفت رئيسي، خلال كلمة في تشييع شهداء التفجير، إلى تنبّه بلاده للواقع الإسرائيلي المأزوم الذي يدفع حكومة الاحتلال إلى التصعيد في المنطقة، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن «العدو يعلم قوّتنا، وردّنا على هجوم كرمان ستحدّده قواتنا في الزمان والمكان المناسبَين».
حمل كلام مسؤولين أمنيين إيرانيين تصويباً مباشراً على الجماعات المتطرفة


في المقابل، وعقب ساعات من إعلان تنظيم «داعش» مسؤوليته عن مجزرة كرمان، حمل كلام مسؤولين أمنيين إيرانيين تصويباً مباشراً على الجماعات المتطرفة، وإنْ كانت إيران تعتبر الأخيرة ذراعاً إرهابية لما دأبت دوائرها الأمنية على توصيفه بـ»الثالوث التكفيري الصهيو - أميركي». وأعلن وزير الداخلية الإيراني، أحمد وحيدي، أن قواته عثرت على «أدلّة جيدة حول أسباب التفجير الإرهابي في كرمان»، مؤكداً «اعتقال عدد من المشتبه فيهم». وشدّد وحيدي على أنّ «الحركات الإرهابية المدعومة من الأنظمة الإرهابية ستقع في قبضة قوى الأمن الإيرانية». وفي الاتجاه نفسه، جاءت تصريحات القائد العام لحرس الثورة الإسلامية في إيران، اللواء حسين سلامي، حين أكد أنّ بلاده ستنتقم لدماء الشهداء، مضيفاً أنّ «التكفيريّين أجبن من أن يواجهونا وجهاً لوجه، وهدفهم الأطفال والنساء». وتوعّد سلامي تلك الجماعات، مشدّداً على «(أنّنا) نهزم التكفيريين كل يوم، ولن نسمح للعدوّ بالسيطرة علينا».

معادلة الردّ: «أضعف لحظة ممكنة»
ومن هنا، فقد أعطت ردود الفعل «المدروسة» الصادرة عن القيادتَين العسكرية والسياسية في طهران، دلالات حول تفطّن الجمهورية الإسلامية لحقيقة نيات إسرائيل المتوثّبة لتوسيع نطاق الحرب، وتنبّهها إلى ضرورة تفويت الفرصة على حكومة بنيامين نتنياهو للتخفيف من الضغوط الخارجية الممارَسة عليها، ومن أزماتها الداخلية، على حد سواء، وخاصّة ما يتعلق منها بالانقسامات المتنامية في أوساط الطبقة السياسية، وبسجلّ إخفاقات حربها على غزة، فضلاً عن رغبتها في الاندفاع نحو تصعيد جديد تتلطّى خلفه لاستدرار المزيد من الدعم العسكري الأميركي بعد إشارات «سلبية» في هذا الخصوص، لعلّ أبرزها سحب حاملة الطائرات «جيرالد فورد» من منطقة عمليات البحر المتوسط. ووفق بعض المراقبين، فإن نهج إيران الذي يميل إلى رفض تقديم الفرصة لإسرائيل لفرض معركة إقليمية وفق توقيتها، يتقاطع مع عدم رغبة واشنطن في تصعيد كبير في المنطقة، إذ تراهن طهران على التباينات الأميركية - الإسرائيلية في هذا الخصوص، وتبني على أساسها خيارات ردّها على الاعتداء الأخير. وفي هذا السياق، أشارت صحيفة «تلغراف» إلى أنّ قادة المحور الإقليمي، الذي تتزعمه طهران، وعلى رأسهم الأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصر الله، «يَعلمون أن إسرائيل تخسر الدعم الدولي مع تلاشي ذكرى هجوم السابع من أكتوبر»، مؤكدة أن الأخير بات يعاين عن كثب مدى تصدّع المجتمع والسياسة في كيان الاحتلال. وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن قادة ذلك المحور، وخاصة نصر الله، إذا ما تمكّنوا من احتواء مقاتليهم، فسوف ينتظرون ضرب إسرائيل في «أضعف لحظة ممكنة»، وهو السبب عينه الذي قد يدفع إسرائيل إلى أن تقرّر في الوقت الراهن القضاء على «حزب الله»، باعتباره «الورقة الرابحة» بيد المحور، وفق تعبير الصحيفة.