القدس | لعلّ أفضل توصيف ينطبق على الهوس الأمنيّ غير المسبوق، الذي أصاب المنظومة الإسرائيلية منذ هجوم «طوفان الأقصى»، هو ذاك الذي استخدمه جورج أورويل في روايته «1984»، عندما قال: «الأخ الأكبر يراقبكم»، مُتنبئاً بدقّة بما سيكون عليه العالم في القرن الحادي والعشرين، من سلب للحرّية والخصوصية، ومحاصرة للأفراد بشتّى أنواع المراقبة والتنصّت. في إسرائيل اليوم، يحضر «الأخ الأكبر» على أكثر من هيئة؛ بدءاً ببرامج تقنية، مروراً بكاميرات مزروعة في كل ركنٍ لمراقبة الجميع على مدار الساعة، وصولاً إلى أنظمة شمولية لا تتوانى عن تزييف التاريخ، وليس نهاية بفرض العدو رؤيته الخاصة للحقيقة وللحقّ. ولعلّ ما تقدَّم تُرجِم بطريقتَين، في السياق الاستعماري في فلسطين المحتلّة: الأولى، تمثّلت في اللجوء إلى «العنف المتفجّر» في قطاع غزة عبر أداة القتل والإبادة الجماعية؛ والثانية، «العنف الملجوم» المُستخدَم في المناطق المحتلّة عام 1948 والقدس المحتلّة، والذي انعكس في سياسات العقاب الجماعي، كالاعتقال الإداري والحبس المنزلي، ودفْع الغرامات المالية الباهظة، ومنْع النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وسحب الامتيازات من الفلسطينيين، كطردهم من جامعاتهم ووظائفهم. والواقع أن ما يحدث هناك من تكميم للأفواه واعتقالات جماعية بحجة «التحريض» أو «التماهي مع المنظمات الإرهابية»، يشبه «الحكم العسكري» الذي يسود خلاله القانون العرفي. لكن الفلسطيني لديه القدرة الدائمة على اكتشاف طرق للمقاومة والإبداع مهما ضاقت به السبل.هنا، تَحضر نظرية عالم الأنثروبولوجيا، جيمس سكوت، في كتابه «المقاومة بالحيلة... كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم؟»، لتحليل الخطاب الخفيّ الذي يبثّه المقهورون، وأثره في تعزيز حسّ المقاومة لديهم وتمريره بينهم، ومن ثم تناول أشكاله وآلياته الدفاعية التي تحفظ استمراره من بطش المستبدّين. وفقاً لسكوت، ثمة نمط من المقاومة يَستخدم الحيلة والإيهام في مقاومته قبل العنف والثورة، ويُخضِع العلاقة بين الحاكم المستبدّ والمحكوم المغلوب لأكثر من خطاب: واحد مُعلَن، وآخر مستتر. أمّا الحاكم، فخطابه المُعلَن يتملّق رعاياه ويعدهم ويمنّيهم، لأن «القوّة لا تحكم وحدها»، كما يقول هتلر، فهي بحاجة دائمة إلى خطاب يحتوي المحكومين نفسياً ويوهمهم بأن السلطة تتماشى مع مصلحتهم، بينما يُخفي المتسلّط في حديقته الخلفية خطاباً آخر بين أنداده وحاشيته. ويصف سكوت «السياسة التحتية»، في ميدان النضال السياسي الهادئ، باعتبارها خياراً تكتيكياً نابعاً من وعي حذر بتوازن القوى. ويقول: «لكلّ مقاومة مكشوفة شقيق هو السياسة التحتية، ينشد الأهداف الاستراتيجية ذاتها، ويفضّل البقاء مستوراً»، واصفاً السياسة التحتية بـ«اللبِنَة البانية لعمل سياسي متقَن لا يمكن أن يوجد من دونها»، وبـ«ترسانة دفاع في العمق عمّن لا سلطة لهم».
كل أشكال المقاومة المقنّعة تمهّد لإحداث المقاومة الظاهرة


في هذا الإطار، يرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت، أباهر السقا، في ممارسات الحياة اليومية «مدخلاً لقراءة الظواهر الاجتماعية»، باعتبارها «تختلف حسب حاجات الجماعة المحكومة، وتشتغل بمنطق التحدّي الرمزي الخفيّ الذي يمكن أن يستمرّ حتى اللحظة التي يصبح فيها قادراً على إحداث تحدٍّ علني للنظام القائم»، أي «انطلاق الشرارة». ولذلك، فإن كل أشكال المقاومة المقنّعة تمهّد لإحداث المقاومة الظاهرة، التي تسبقها حياة مزدوجة لدى الجماعة، وتاريخان رسمي وغير رسمي، يُضاف إليهما إرث منقول من الأغاني والنكات والشعر، وهذا ما لا تتنبّأ به العلوم الاجتماعية. ويشير السقا إلى أن «كل جماعة محكومة تَخلق من محنتها موروثاً ينتج خطاباً مستتراً مُضاداً للخطاب العلني» بالمعنى الذي يقصده سكوت، موضحاً أن ثمّة ثقافة خاصة تنمو لدى الخاضعين. وعملياً، فإن العمل الارتجالي أو العفوي، يرتكز على شبكات مجتمعية (أصيلة منغرسة في المجتمع)، تنمو بدرجة من الاستقلالية الذاتية بعيداً من النخب الحاكمة التي تعمل على إنشاء ثقافة مضادة للثقافة الرسمية، وتأخذ مظاهر متعددة، منها: العزوف عن السياسة إلى حدّ اللامبالاة. وربّما يجب اعتبار هذه المظاهر أفعال مقاومة، على اعتبار أنها لا يمكن أن تنطلق إلا من تراث شعبي وتفاهم شعبي داعم له. ومن هنا، يُفهم لماذا يعدّ الصمت مقاومة، ولماذا تجري تسمية الملتزمين به بـ«الأغلبية الصامتة»، بمنطق جان بوديار، أو بـ«الطبقة الجامدة» بتصور بيار بورديو.
بناءً على كل ما سبق، فإن صراخ فلسطيني ودعوته: «الله يهدّ إسرائيل ويوخذها» أو «انشالله بيجي يوم بندعس ع راسكم» في لحظة انسحاب جنود جيش الاحتلال من منزلٍ في القدس أو في الأراضي المحتلّة عام 1948، بعد اقتحامه بغية جرّ أحد أفراده إلى التحقيق والاعتقال، ليس مجرد صرخة غاضبة، بل يحمل تصويراً دقيقاً ليوم الثأر الذي يحلم به الفلسطينيون المقهورون منذ عقود. كما أن مشاعر الغضب والحزن المكبوتة بفعل جرائم الإبادة المتواصلة في غزة، والتي لا يتمكّن هؤلاء من التعبير عنها، هي أحد أنواع المقاومة بالحيلة، والتي لا تحتاج إلا إلى شرارة لا يمكن التنبؤ بها، حتى تتحوّل إلى فعل احتجاجي عارم في لحظة ما.