غزة | يُشعرك حي التفاح، شرقي مدينة غزة، أنّ للأحياء أيضاً نصيباً من اسمها، فلا شيء يمكن أن يصف طعم العذوبة الذي يتركه فيك أهله. الحيّ الذي تصدَّر عناوين الأخبار، وبيانات فصائل المقاومة، في الأسابيع الماضية، انسحبت منه دبابات العدو أخيراً، لتَظهر فيه مجدّداً بصمة التدمير الممنهج نفسها، والحرق الذي طاول كل المنازل التي لم تُهدم كليّاً. من مفترق السنافور على طريق صلاح الدين، دخلنا الحيّ الذي استحال فضاءً، وكأنه لا منازل فيه ولا شوارع ضيّقة. في الطريق الرئيسي، يجلس العشرات من المواطنين على عتبات منازلهم، أو ما تبقّى منها. هناك، التقينا محمد الديري، الذي تشير ملامح وجهه إلى أنه تجاوز السبعين. هو، وخلافاً لأهالي التفاح، جاء من حي الصبرة، للاطمئنان إلى قبور أبنائه الشهداء: «جرفوا المقبرة، داسوا جثامين الأولاد بالدبابات والجرافات، من ثلاث ساعات وأنا مش لاقي لأولادي الشهداء الاثنين أيّ أثر».في مقابل الحاج الذي تشعرك البحة الرهيبة في صوته، بمقدار ما خسر، كان يجلس أبو محمد البطش، الشديد العزم، رغم سنّه المتقدّمة وخسارته الكبيرة. البطش جرفت الآليات الإسرائيلية مشروعه التجاري، ومخازن البضائع التي تحوي كل «شقى عمري ورزق أولادي». أمّا بيته، فقد «انهارت أجزاءٌ منه، لفرط ما اشتعلت فيه نيران القذائف الحارقة». بسماجة وتذاكٍ، حاولنا استنطاقه: «أظنّ ما ضلّ إلنا قعدة في هالبلد بعد الحرب... كلنا على كندا وهولندا يا حاج؟». أجاب الرجل غاضباً: «لا والله، فشر نتنياهو وخاب، هان أرضنا وبلدنا، خيمة فوق ركام البيت أشرف وأكرم من كل دول العالم». قال ذلك، وأكمل حديثه إلى «الأخبار»: «أنا جاي هان اليوم، مش عشان أتحسّر على مالي وبيتي، رجعت لأنّي شفت شباك بيتي في مقطع للقسام، قتلوا في هذا البيت خمس جنود، أنا جاي أبوس حيطان البيت، لأنو هوا ذخري عند الله، عمري 75 سنة، الله أكرمني بإنّي قدّم شيء لربنا ولفلسطين قبل ما ياخذ أمانته، أنا أكثر الناس حظاً يا بنية».
في التفاح، تحضر تلك الروح الصوفية العذبة في التعاطي مع المصائب الكبرى


في التفاح، تحضر تلك الروح الصوفية العذبة في التعاطي مع المصائب الكبرى، حيث يلقي الأهالي همومهم على الله. ستدخل الحيّ وتغادره تماماً، من دون أن تسمع عبارة نقمة واحدة: «اختار الله لنا هذه البلاد... رضينا وحمدنا وشكرنا»، قال شاب لم يتجاوز الثلاثين من العمر، وهو يفتّش بين أنقاض بيته عن شيءٍ يستفاد منه. عماد، لم يكن بيته المدمّر سوى أقلّ خساراته، إذ استشهد ثلاثة من أشقائه في ميدان القتال، وقضت والدته وعشرة من أفراد عائلته تحت ركام بيتهم المقصوف. لكنه مع هذا، يقول لـ«الأخبار»: «نحن نؤمن بأن الأقدار مكتوبة من قَبل الميلاد، وهذا الإيمان تطبيقي لا معرفي، لذا فإن الله لم يسمع منّا غير حمده وشكره، وهذا حمد الراضي لا العاجز».
ستطول جولتنا في حي التفاح أكثر ممّا يسمح به الظرف. استغرق الطريق إليه ثلاث ساعات من المشي على الأقدام، وسيتعيّن علينا حساب مدّة مماثلة للعودة قبل حلول الظلام. غير أن سجية الأهالي التي جبلت على الكرم، وتقاسم اللقمة، وكأس الشاي، وحتى رشفة القهوة، أجبرتنا على البقاء. الحديث إلى «أبو زكي» لذيذ، والشاي الذي أعدّه على ما تبقّى من أخشاب طقم نومه لذيذ أيضاً. يدير الرجل الأربعيني حواراً لا يخلو من الطرافة الملتزمة: «كانت أختك إم زكي بتزنّ براسي أغيّر طقم النوم، بس إجيت على البيت وشفته، قلتلها هدي على بالك، هيك مضطرين نغير الدار كلها مش الطقم بس... زنانات زوجاتنا يا أخي زنانات». قال ذلك، وغاص في موجة من الضحك. يحسن الرجل تسخيف المصائب على نحو محبَّب. لقد خرج من الحرب خاليَ الوفاض، بلا بيت ولا عمل، ولم نكن نعلم أنه فقد ابنته الصغرى أيضاً، لولا أن مواكب الزائرين كرّروا عليه: «عظم الله أجركم... ذخر في الجنة». بالنسبة إلى «أبو زكي»، إن الفلسطيني يعيش اليوم حياته المثلى، وقدره المحتوم في مواصلة الصراع، فيما كل الخسارات على طريق بناء المستقبل، مكاسب. قال ذلك كله في جملة تتجاوز في بساطتها كلّ بلاغة ممكنة: «هُمّا قدرنا وإحنا قدرهم... نهايتنا على أرضنا المحرّرة، فوقها أو تحت ترابها، ونهايتهم يرجعوا من وين ما إجوا».