تجاوزت دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام «محكمة العدل الدولية»، التوقّعات التي حاولت التقليل من شأنها، وهو ما تجلّى في تداعي دولة مثل ألمانيا للإعلان عن دعمها إسرائيل قانونيّاً في القضية. ورأى خبراء قانونيّون في الكيان («جيروزاليم بوست»، 13 الجاري) أن هذه الدعوى «مجرّد بداية» ستليها دعاوى أخرى (من دول غير جنوب أفريقيا) ضدّ مسؤولين وقيادات عسكرية إسرائيلية أمام «المحكمة الجنائية الدولية»، لارتكابهم جرائم حرب بحقّ الفلسطينيين في غزة. وفيما حظيت تحرّكات بريتوريا بتأييد شعبي واضح في أفريقيا، وأجزاء متفرّقة من العالم، أكدت مصادر جنوب أفريقية («أسوشيتد برس»، 13 الجاري) حصول بريتوريا على تأييد رسمي من أكثر من 50 دولة، علماً أنّ غالبية تلك الدول أفريقية وعربية، وسط صمت لافت من قِبَل الصين وروسيا والهند، واندفاع غربي حثيث للذود عن إلصاق تهمة الإبادة بالكيان.جنوب أفريقيا تتقدّم على إسرائيل: هجمة غربية مضادة؟
استمر الدعم الشعبي والسياسي الكبير لخطوة جنوب أفريقيا منذ بدء نظر المحكمة في الدعوى (11-12 الجاري). وكان من أبرز تلك المظاهر تجمّع حشود من الخبراء القانونيين والأكاديميين والمحامين والمنظمات الحقوقية المناصرة للقضية الفلسطينية خارج مقرّ المحكمة العليا في مدينة كيب تاون، بغرض إظهار التضامن مع الوفد الجنوب أفريقي في «العدل الدولية». وأثارت مداولات المحكمة وسجالاتها وما كشفت عنه من ضعف حجج الجانب الصهيوني مقارنة بأداء نظيره الجنوب أفريقي، شعوراً متنامياً وسط الجنوب أفارقة بالفخر والاعتزاز بالدور الأخلاقي لبلادهم إزاء الأزمة في غزة.
وجدّد الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا (13 الجاري)، إدانة بلاده «بأقصى العبارات، ذبح شعب فلسطين وإبادته»، مؤكداً أنه لم يسبق له أن شعر بالفخر، مثلما شعر به يوم دفاع الفريق القانوني الجنوب أفريقي عن قضيّته أمام محكمة لاهاي. ومن جهتها، سعت وسائل إعلام إسرائيلية إلى ربط مسار القضية، بملفّ الانتخابات التي ستشهدها جنوب أفريقيا العام الجاري، مروّجةً لتوقعات تشير إلى تراجع حظوظ «حزب المؤتمر الوطني» الأفريقي الحاكم، ولرواية أنّ الدعوى تمثّل في المحصّلة «أداة انتخابية» لمصلحة الحزب. وسُجلت، في هذا السياق، حملات إعلامية غربية مكثّفة (على سبيل المثال «ديلي ميل»، 14 كانون الثاني) تحكي عن العلاقات «الدافئة» بين جنوب أفريقيا وحركة «حماس»، مستندةً إلى زيارة وفد من الأخيرة، في كانون الأول الماضي، إلى بريتوريا، ولقائه مسؤولين حكوميين «ما يساعد على تفسير توجّه جنوب أفريقيا إلى رفع القضيّة في محكمة العدل»، والإشارة إلى أن بريتوريا باتت «ذراع حماس القانونية».

أفريقيا، المحكمة وتفكيك الصهيونية
شملت قائمة الدول الداعمة رسميّاً للدعوى الجنوب أفريقية، نحو 30 دولة أفريقية، من بينها تشاد والكاميرون، وثيقتا الصلة بالكيان الصهيوني، والمغرب صاحبة مسار التطبيع معه، وعدد من الدول المعروفة «باعتدال» مواقفها تجاه الصراعات الشرق أوسطية، مثل غانا وكوت ديفوار، ودول «حزام الانقلابات» في أفريقيا (مالي، النيجر، بوركينا فاسو وغينيا).
واهتمّت وسائل الإعلام الأوغندية بتناول المسألة (إندبندنت، 14 الجاري) بتحيّز واضح إلى المقاربة الجنوب أفريقية، ولا سيما نجاح بريتوريا في تقديم «أطنان من الأدلّة التي جُمعت من وسائل التواصل الاجتماعي والصور والفيديوهات» التي تراكمت خلال أسابيع من إقدام إسرائيل على قتل الفلسطينيين «من دون تمييز»، واصفةً الدفاع الإسرائيلي بـ«الفارغ». وتكرّر الأمر في حالة ناميبيا، التي أعلنت رسميّاً دعمها الدعوى الجنوب أفريقية ضدّ إسرائيل، إذ رأت واحدة من أكبر الصحف هناك، «ذا ناميبيان»(13 الجاري)، أن توجّه بريتوريا «يكتسب أهمية ثقافية وديبلوماسية وتاريخية وسياسية هائلة». وبالتزامن مع مداولات «محكمة العدل»، أفردت صحيفة «Vanguard» النيجيرية الواسعة الانتشار (12 الجاري)، مساحة مهمّة لانتقاد خطط إسرائيل لتهجير «الفلسطينيين إلى أفريقيا»، وسردت تاريخاً دقيقاً ومطولاً عن مساعي الحركة الصهيونية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى «فرض الأبارتهيد على أرض فلسطين بشكل منهجي وإستراتيجي مكتمل الأركان».
شملت قائمة الدول الداعمة رسميّاً للدعوى الجنوب أفريقية نحو 30 دولة أفريقية


وعلى صعيد متّصل بتداعيات القضية، أعلنت بكين أن جولة وزير خارجيتها، وانغ يي، الأفريقية، هذا الجاري (التي ستشمل مصر، تونس، توغو وساحل العاج)، ستتناول خصوصاً ملفّ الحرب في غزة (والوضع في جنوب البحر الأحمر)، وسبل تنسيق الجهود الدولية والإقليمية لدعم وقف كامل لإطلاق النار في القطاع. وتمثل مناقشة الصين للقضية الفلسطينية، أثناء زيارة وزير خارجيتها إلى توغو وساحل العاج (التي تعتبرها بوابة لغرب أفريقيا)، تطوّراً مهمّاً ودالّاً على حيوية الحشد الأفريقي، فيما لا يمكن فصل ما تقدّم عن وثاقة الصلة بين بكين وبريتوريا في مجمل قضايا القارة الأفريقية وسياستها.

خلاصة
وُصفت الدعوى الجنوب أفريقية ضدّ إسرائيل بأنها تحدٍّ «للنظام الذي يقوده الغرب»؛ وربّما كان هذا الوصف مشخّصاً من جهة مقابلة لأسباب تتعلّق بالاستجابة الشعبية والرسمية دعماً للدعوى، في أوساط غالبية أرجاء «الجنوب العالمي»، باعتبارها خطوة غير مسبوقة تسعى إلى إثبات إدانة مكتملة الأركان لإسرائيل. على أن الجانب الصهيوني واصل استهداف المدنيين الفلسطينيين بدم بارد وبمعدّلات متزايدة بعد انتهاء جلسات الاستماع في «محكمة العدل» بساعات قليلة. وتمثّلت حالة الهياج الصهيوني في إطلاق رئيس حكومة الكيان، بنيامين نتنياهو، تصريحات غاضبة مفادها بأنه لا توجد قوّة في العالم، بما في ذلك «محكمة العدل الدولية»، يمكنها وقف حربه في غزة، وهو ما يؤشّر إلى مزيد من الاصطفاف الأفريقي خلف جهود جنوب أفريقيا في المدّة المقبلة.