تحوّلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى حرب استنزاف، يتعذّر حسم وجهتها ومواقيتها. وإذا كانت العملية البرية دخلت مرحلتها الثالثة، إلا أنها لن تصل إلى المرحلة الرابعة، أي الترتيبَين الأمني والسياسي، إلا بعد أن تقرّ إسرائيل بفشلها العسكري، الذي لم يفضِ إلى إنجازات سياسية معتدّ بها، وصلت الوعود بشأنها إلى حدّ التعهّد بـ»تغيير الشرق الأوسط». ولهذا، فإن ما يَظهر من الميدان، ومن الموقف السياسي الغالب في تل أبيب، أن الحرب نفسها باتت هدفاً بذاتها، مع ما يعنيه ذلك من تحوّلها إلى عملية مستمرّة، من دون أفق ولا أهداف، باستثناء ما يتّصل منها بتأجيل إعلان نتيجتها: أي الفشل. ويمكن في هذا الإطار الإضاءة على عوامل دافعة، وأخرى كابحة:- أولاً: لا يزال الضرر الاستراتيجي الذي لحق بإسرائيل في السابع من أكتوبر، يلقي بتداعياته على قيادتها، وعلى رأسها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي يدرك أن إنهاء الحرب سيسرّع من وضع حدّ لحياته السياسية، إنْ لم يضعه في السجن. وبالتالي، فإن أيّ قرار يصدر عنه، متأثّر بهذا العامل، الذي يزيد من فاعليته وحضوره، كون شركائه في الحكم، سيتضرّرون أيضاً من وقف قتال لا يحقّق أهدافه. ومن جهتهم أيضاً، فإن وزير الأمن، يوآف غالانت، وكذلك وزراء المستويين الثاني والثالث، غير معنيين بتعجيل محاسبتهم السياسية، ولدى الرأي العام. كما لا يمكن تحييد العامل الشخصي عن توجّهات وقرارات وتوصيات مسؤولي المؤسستَين العسكرية والأمنية، ومن بينهم رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، ورئيس الاستخبارات العسكرية، أهارون حاليفا، ورئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات، عميت ساعر، وقادة المناطق، وفي مقدّمهم قائد المنطقة الجنوبية، يارون فينكلمان، وغيرهم الكثير من كبار الضباط، و»الشاباك» الذي تسبّب فشله قبل الحرب وخلالها أيضاً، بالإضرار بمصالح إسرائيل الدولة وبتوقّعات جمهورها. ويضاف إلى هؤلاء، الوافدون إلى مجلس الحرب من جنرالات الجيش السابقين، وعلى رأسهم بني غانتس وغادي آيزنكوت، وهما كان يُتوقّع أن يطالبا بوقف الحرب، بقوّة، لو لم ينضمّا إلى الحكومة، لكنهما الآن، يدركان أنهما يجازفان بفقدان التأييد العارم لهما في استطلاعات الرأي، إذا ما بادرا إلى الضغط أكثر على نتنياهو، وهدّداه بالانسحاب من حكومة الطوارئ، إنْ لم يبادر إلى إنهاء القتال.
- ثانياً: هل المصلحة الشخصية هي وحدها التي تقرّر مصير الحرب؟ الواقع أن هذه المصلحة ذات تأثير معتدّ به في نية بدء الحرب والاستمرار فيها، على أن ما دفع إلى هذه الأخيرة بوصفها «حرب اللاخيار»، إنما كان مصلحة إسرائيل الدولة. ويصدق في ذلك، وزير الأمن حين يقول إن «مستقبل إسرائيل معلّق على نتائج هذه الحرب، فأعداؤنا وأصدقاؤنا يتطلّعون إلى نتائجها»، إذ إن إسرائيل منيت بأضرار على مستويات متعدّدة يتعذّر حصرها: في ماهية الدولة وتوصيفها، وأمن مواطنيها، ودورها الإقليمي، وثقتها بنفسها وثقة أصدقائها بها، وقدرتها على طمس القضية الفلسطينية والتطبيع مع الإقليم واتخاذ موقع ريادي فيه. ومن هنا، كانت الدولة العبرية أمام غاية واحدة لا ثاني لها: العودة إلى مكانتها السابقة تحت طائلة فقدان مستقبلها، وهو ما لا يمكن تحقيقه من غير حرب شاملة مهما كانت أثمانها؛ فالخسارة في 7 تشرين الأول لا تُرمّم، إلا عبر الانتصار في هذه الحرب. وكانت الثقة كبيرة بإمكان تحقيق تلك الغاية؛ إذ إن مَن صنع قرار المواجهة الشاملة والعملية البرية، هو الصدمة والإرادة المبنيّة عليها وحالة إنكار الواقع.
ثالثاً: على أنه بعد ثلاثة أشهر ويزيد على بدء الحرب، بات واضحاً أن أهداف هذه الأخيرة كانت وما زالت غير واقعية. لكن كيف يمكن، وفقاً لمصلحة إسرائيل الدولة، إنهاء القتال وإعلان الفشل عمليّاً؟ القرار صعب، وتداعياته ممتدّة وخطيرة جداً على الكيان، وقد يكون أصعب من خسارة السابع من أكتوبر. ولذا، تعيش إسرائيل، منذ أسابيع، في دوّامة تزداد صعوبة: فلا هي قادرة على إنهاء الحرب، ولا بإمكانها الاستمرار فيها في ظل العجز عن تحقيق أهدافها. ويبدو أن القرار المتّخذ حتى الآن، هو تأجيل إعلان الفشل، والاستمرار في الحرب، وإنْ ضمن مستوى منخفض وبأهداف تكتيكية.
إلّا أن لمواصلة الحرب أيضاً أثمانها، إذ لا تقتصر على خسائر الميدان في غزة أو الضفة أو أيّ من ساحات فلسطين المحتلّة فحسب، بل تشمل كذلك خارجها، فضلاً عن الأثمان العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي هي في الإجمال مضرّة بمصلحة إسرائيل ومكانتها على أكثر من مستوى واتّجاه. وتلك عوامل تتعاظم مع استمرار القتال، وتشكّل مانعاً من الاستمرار نفسه. ومن هنا، فالميزان بين المضي في القتال وفرملته، يكاد يتوازن. فهل يجري تثقيل الدوافع، أو الكوابح؟ الرهان على ما يأتي من المرحلة الثانية من الحرب، وتحديداً في وسط قطاع غزة، بعدما فشل الجيش الإسرائيلي وانتقل إلى المرحلة الثالثة في شمال القطاع، من دون تحقيق أهداف الثانية هناك. لكن ماذا إنْ تكرّر الفشل، وهو ما يبدو مرجّحاً وبشدّة؟