غزة | في العسكرية، يُقال إن «المدفعية آلهة الحرب». وإذا كانت كذلك، فلا عجب أن الروايات التي خطّها الكتاب السوفيات من أمثال فلاديمير كاربوف، ووثّقت وقائع الحرب مع الألمان، وتحوّلت المئات من صفحاتها إلى أفلام سينمائية، صوّرت إحداها المهمة الفدائية التي خاضها بضعة جنود خلف خطوط العدو، لتدمير بطاريات المدفعية التي كانت تُدكّ بها المدن وخطوط الدفاع. علمنا ذلك في غزة، بل جرّبناه، في الخمسين يوماً الأولى من عمر الحرب، إذ دُكت مناطق شمال وادي غزة بنحو 80 ألف قذيفة مدفعية، وفقاً لإحصائيات رسمية نشرها جيش العدو. كانت تلك أقسى أنواع الفعل العسكري الهمجي، الذي يطاول مربعات سكنية وأحياء مأهولة؛ إذ إن القذيفة المدفعية، على غير الصاروخ الذي تطلقه الطائرات الحربية والمسيرة، غبية وعمياء، لا بل تنتشر شظاياها الملتهبة في حدود مكانية واسعة، تتخطّى الهدف المحدد إلى آلاف الأمتار. هنا، يمكنك أن تسأل الأهالي الذين أضحوا يمتلكون خبرة بكلّ أصناف الأسلحة، أيّ أنواع القصف أشدّ وطأة وإثارة للرعب؟ وعندها، لن يختلفوا على أنها المدفعية.ورغم الفارق في التأثير والمدى بين قذيفة العدو، ومقذوف المقاومة الذي ينحصر بسلاح «الهاون»، إلّا أن المدفعية هي المدفعية، في تأثيرها النفسي والمعنوي، وما تثيره من حالة الرعب وانعدام الشعور بالأمن في ميدان القتال. وعلى هذا المبدأ، أفردت «سرايا القدس»، الذراع العسكرية لـ«حركة الجهاد الإسلامي»، مساحة واسعة من عملها الميداني، لقذائف «الهاون» والصواريخ قصيرة المدى من طراز 107 ملم، ووظّفت، في الأسبوعين الماضيين، ذلك السلاح التقليدي البسيط، على نحو نوعي، في خانيونس. إذ رصدت السرايا موقع قيادة وتحكّم وتخييم ومبيت لقوات كبيرة من جيش العدو، ونفّذت عملية استحكام مدفعي من خمسة محاور، استخدمت فيها صواريخ الـ107 النظامية - تصنيع دولي وليس محلّياً - على نحو مميّز. فالمقاومون ثبّتوا خمسة صواريخ بشكل أفقي، وعبر ثغرات في جدران منزل مقابل تماماً للموقع المستهدف، انطلقت الصواريخ، بالتزامن مع انطلاق العشرات من قذائف «الهاون» النظامية الدقيقة جداً من عدّة نقاط محيطة، لتسقط جميعها في عمق الهدف. وأظهرت المقاطع المصوّرة للعملية، التي تكرّرت بالأسلوب النوعي نفسه مرة ثانية في الأسبوع ذاته، عملية إخلاء وهروب كبرى من المكان.
المدفعية هي المدفعية، في تأثيرها النفسي والمعنوي، وما تثيره من حالة الرعب


في أيام الحرب، التي تذبذب فيها مستوى الزخم الميداني لمختلف فصائل المقاومة، حافظت «السرايا» على نحو يومي على حضور المدفعية، ما يدلّل على أن المقاومين تمكنوا من التحايل على أجهزة الرادار والتتبع الإلكتروني التي يمتلكها جيش العدو ويزوّد بها مدفعيته. وفي هذا الإطار، يقول مصدر ميداني مطّلع، لـ«الأخبار»، إن «استمرار القصف المدفعي من مفارز الهاون، بمعزل عن مستوى الزخم الناري للعدو، جاء نتيجة مراكمة خبرات من تجارب الحروب السابقة. فهمنا الطريقة التي يعمل بها جيش العدو، وأعدنا بناء المرابض بالطريقة التي تسمح بتجاوزها». أمّا آخر الشهادات الحية التي قدمها لنا أحد الشبان الذين أطلق سراحهم بعد اعتقال تجاوز الشهر، في منطقة جباليا شمالي قطاع غزة، فتؤكد إن إحدى رمايات «الهاون» أجبرت العدو على إخلاء محور عمليات كامل. يقول الشاب لـ«الأخبار»: «بدأ الجنود بالصراخ والشتائم، سقطت القذيفة الأولى بالقرب من دبابة، دخل من كان خارجاً في داخلها وتركونا من دون حماية، ثم سقطت قذيفة أخرى في وسط موقع التحقيق، هرع مئات الجنود يبحثون عن ساتر أسفل البيوت، ثم اقتادونا إلى منطقة أخرى (...) الهاون دقيق جداً ومرعب».