رسمت الولايات المتحدة، منذ السابع من أكتوبر، التصوّر الإستراتيجي للردّ على عملية «طوفان الأقصى»، والذي يقوم، في جانب رئيس منه، على حصر المواجهة في قطاع غزة، ومنع امتدادها إلى الإقليم. إلّا أن اليمن، بتدخله العسكري إلى جانب محور المقاومة، أطاح بهذا التوجّه الأميركي. ورغم أن جبهة لبنان قد كسرت قرار واشنطن بإطلاق عمليات خاصة ضد مواقع عسكرية للكيان، وكذلك فعلت المقاومة في العراق، إلّا أن اليمن تميز بأنه حرك ساكناً نوعياً لم يمسّه أي طرف من قبله، عبر الإغلاق المحكم لممر ملاحي على مستوى عال من الحساسية والأهمية في وجه السفن المرتبطة بإسرائيل أو الذاهبة إليها. هنا، وقع التصادم المباشر مع واشنطن، التي انتقل التهديد اليمني بالنسبة إليها من المستوى التكتيكي المرحلي إلى المستوى الإستراتيجي الدائم، وهذا ما يمسّ جوهر فكرة الولايات المتحدة عن الإمساك بقرار العالم عبر التحكم بالبحار والمحيطات والممرات المائية، ويفرض على الأميركيين مسؤولية التخلص من هذا التهديد الداهم.أمّا إسرائيل، وعلى رغم تبجّحها بقدراتها العسكرية، إلا أن الواقع الموضوعي يؤكد أنها لا تمتلك إستراتيجية دفاعية حقيقية لمجابهة المخاطر التي يمكن أن تتهدّد سفنها خارج خليج العقبة ومضائق تيران، وذلك لثلاثة أسباب:
1- عدم امتلاك إسرائيل القدرات البحرية الكافية؛ إذ يملك الكيان ثلاث غواصات، وسبعة عشر طراداً من نوع «ساعر»، إضافةً إلى عشرات الزوارق الدورية، وهو ما لا يعدّ كافياً.
2- طول خط الملاحة في البحر الأحمر، والذي لا يقلّ عن 1900 كلم.
3- دخول المنطقة بكاملها ضمن نطاق القوة البحرية الأميركية للأسطول الخامس.
واستناداً إلى تلك المعطيات، بنت إسرائيل نظريتها الدفاعية في البحر الأحمر على عدّة ركائز، أوّلها وأهمها الاستناد إلى القوة البحرية الأميركية.
ظهرت الولايات المتحدة كدولة «مارقة» لا تحترم القوانين الدولية


لا نتائج لمصلحة واشنطن
جاءت الاعتداءات الأميركية المتتالية على اليمن، في سياق دفاع الولايات المتحدة عن أمنها الإستراتيجي ومنظورها الضامن للهيمنة عالمياً، وتأكيد استعدادها لحماية مصالحها الحيوية، فضلاً عن ضمان الظرف الملائم لاستمرار العدوان على قطاع غزة. في المقابل، نجح اليمن، عبر قراره فرض الحصار على الكيان، في استدراج الولايات المتحدة إلى المواجهة العسكرية المفتوحة والعلنية إلى جانب إسرائيل، على نحو فضح ادّعاء حرصها على منع امتداد الصراع، وأظهره بوصفه حيلة لمنع تنامي أيّ جبهة مساندة للمقاومة في غزة، والتعمية على كون واشنطن منخرطة في حرب الإبادة التي تشنّها حليفتها على الفلسطينيين. هكذا، تحوّلت منطقة البحر الأحمر إلى منطقة اشتباك مفتوح؛ إذ بدل أن تعمل الولايات المتحدة على وقف فوري لإطلاق النار وفقاً لما طالبت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، قامت بتفجير صراع عسكري لحماية قرار استمرار إطلاق النار، متحوّلةً بذلك إلى تهديد فعلي للملاحة الدولية، ومتسبّبةً بدفع الشركات التي كانت لا تزال تبحر في باب المندب بشكل طبيعي وآمن، إلى الامتناع فوراً عن الملاحة هناك، وتحويل مسارها إلى رأس الرجاء الصالح.
بناءً على ما تقدّم، يمكن القول إن جنوح واشنطن إلى الخيار العسكري، أسهم في تحقّق أهداف صنعاء أكثر ممّا أضرّ بها، وهي التالية:
1- تحوّل المجال الإستراتيجي للبحر الأحمر إلى مجال غير آمن وغير قابل لاستعادة الأمن ما لم يتمّ وقف النار في غزة.
2- توسع دائرة الأهداف اليمنية لتشمل المصالح العسكرية وغير العسكرية لكل من واشنطن ولندن.
3- تسليط ضغوط إضافية على الإدارة الأميركية، على أبواب معركة انتخابية معقّدة وغير مضمونة النتائج، وبالتالي مفاقمة مأزق الرئيس جو بايدن الانتخابي.
4- انكشاف الدعاية الأميركية حول تهديد اليمن لسلامة الملاحة في البحر الأحمر، وخلق مناخ دولي ضاغط لمصلحة المقاومة في غزة.
5- ظهور الولايات المتحدة كدولة «مارقة» لا تحترم القوانين الدولية، وتتصرّف وفقاً لمصالحها ولو على حساب مصالح العالم أجمع.
6- ظهور الهجوم الأميركي بوصفه دعائياً وغير مؤثر؛ كون معظم الأهداف التي طالها، كانت قد ضُربت سابقاً منذ بداية عدوان 2015، من دون أن يؤثّر ذلك في القدرة العسكرية اليمنية.
7- تعزيز تمسك اليمن قيادة وشعباً بقرار محاصرة الكيان ونصرة غزة، وجعْل إمكانية تعليق هذا القرار أكثر صعوبة.
8- تعزيز الحضور اليمني على المستويين الشعبي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي، والمساعدة في بناء صورة أيقونية لليمن الذي ينخرط في مجابهة مباشرة مع الغرب من أجل قضية فلسطين.
9- خلق واقع معقّد لدول الخليج التي تجد نفسها مضطرة لغسل يدها من الهجمات على اليمن، لاعتبارَين: الأول، يتصل بمسؤوليتها المباشرة في تلك الحالة عن دعم قرار إبادة الشعب الفلسطيني؛ والثاني، أنها غير مستعدة للعودة إلى اشتباك مباشر مع اليمن بعد هزائمها المتتالية على مدى تسع سنوات.
في المحصلة، يدير اليمن معركة خطرة جداً في مواجهة الولايات المتحدة، والتزامه بالردّ الحتمي على الهجمات الغربية، واستمراره الأكيد في قرار منع السفن الإسرائيلية من العبور في البحرين العربي والأحمر، سيعيدان كرة النار إلى الحضن الأميركي، حيث التصعيد سيستدرج التصعيد، ما لم تخضع الولايات المتحدة، ولو مؤقتاً، لواقع العجز عن المعالجة الآنية للمارد اليمني، الذي استيقظ في لحظة حاسمة من عمر الصراع العربي - الإسرائيلي.