هيمنت الحرب على قطاع غزة على فعاليات قمّة "دول عدم الانحياز" - التي تضمّ في عضويّتها 120 دولة، يقع أغلبها في نطاق "الجنوب العالمي" -، جنباً إلى جنب مسألة الدعوة إلى ضرورة إصلاح النظامَين السياسي والاقتصادي في العالم. وشهدت أعمال القمّة التي استضافتها كمبالا، عاصمة أوغندا، يومَي الـ 19 والـ 20 من الجاري، إدانة واضحة لحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين. وتكتسب هذه الإدانة، التي تبنّاها أغلب القادة ورؤساء الحكومات المشاركون في مؤتمر الحركة المؤسَّسة منذ عام 1961 وتُعدّ ثاني أكبر المنظّمات العالمية لجهة حجم عضويتها بعد الأمم المتحدة، أهميّة إضافية من كونها تتزامن مع حَراك جنوب عالمي متصاعد، يهدف إلى إعادة التوازن إلى النظام العالمي، وتقوده الصين (التي شاركت في القمة، على رغم أنها ليست عضواً في الحركة) وجنوب إفريقيا. وأعربت دول "عدم الانحياز"، في "إعلان كمبالا"، عن "قلق الحركة العميق" إزاء الأزمة الإنسانية التي يعانيها المدنيون الفلسطينيون في غزة، داعيةً إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 2720 لعام 2023، للسماح بتقديم المساعدات الإنسانية الضرورية لإنقاذ حياة الفلسطينيين في القطاع.كذلك، كشفت صياغة الإعلان عن قراءة معمّقة للقضية الفلسطينية، لا تحصرها في إطار أزمة قطاع غزة، وفق ما ظهّرته إشارة البيان إلى عنف القوات الإسرائيلية والمستوطنين والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. وشمل الإعلان، أيضاً، دعماً لدعوى جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل أمام "محكمة العدل الدولية"، فيما دان "جميع الإجراءات" التي تقوم بها قوّة الاحتلال الإسرائيلية لتغيير "الوضع الجغرافي والديموغرافي" للجولان السوري المحتلّ، مشددةً على ضرورة التزام إسرائيل بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، والانسحاب إلى حدود 4 حزيران 1967. ونبّه البيان إلى المخاطر الكبرى التي تفرضها الأزمة في فلسطين على السلم الإقليمي والدولي.

الجنوب العالمي - غزة: مسارات متطابقة
تطابق طرح مسألة العدوان الصهيوني على غزة، مع مطالب بارزة في قمّة "عدم الانحياز" بإصلاح حقيقي للنظام العالمي الراهن. إذ تحدّث الرئيس الجنوب إفريقي، سيريل رامافوسا، عن إظهار الحرب في القطاع عدم كفاءة الأمم المتحدة، ولا سيما مجلس الأمن، حيث استخدمت الولايات المتحدة مرّات عدّة حقّ النقض ضدّ قرارات منتقدة لإسرائيل، مردفاً ذلك بالحاجة إلى إرساء نظام حوكمة عالمي يتمتّع "بالعدل والمساواة"، وتكون لديه القدرة على الاستجابة لحاجات الجميع في مواقف التهديد والضرر (كما في غزة). أما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرتش، فاعتبر الرفض الإسرائيلي لقبول "حلّ الدولتين" وإنكار حقّ الفلسطينيين في دولة "أمراً غير مقبول". كما أعلن دعمه دعوة "عدم الانحياز" إلى إصلاح مجلس الأمن. وإلى أبعد من ذلك، ذهب الموقف الكوبي في القمة، بدعوته، على لسان عضو المكتب السياسي في "الحزب الشيوعي"، وزير الخارجية برونو رودريجوز باريلا، إلى إرسال قوّة حماية دولية "على الفور" إلى قطاع غزة، بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، تكون مهمّتها ضمان أمن وحماية السكان المدنيين في القطاع، وتيسير توصيل المساعدات الإنسانية إليهم.
أما الصين، التي وصفها ممثّل فلسطين في الأمم المتحدة بـ"الصديق الحقيقي"، فتمثّلت في القمّة تمثيلاً رفيعاً بحضور عضو اللجنة المركزية في "الحزب الشيوعي" الصيني، نائب رئيس الوزراء ليو غوزهونغ، على رغم وضعها كمراقب في "عدم الانحياز". ورأى مراقبون أن هذا الحضور عكس ثقة بكين بالحركة، وقدرة الأخيرة على حشد المواقف الدولية خلف استراتيجياتها، وسط الديناميات والصراعات الجيوسياسية المتغيّرة في العالم، ولا سيما موقف الصين في مواجهة الولايات المتحدة (الداعم الأكبر لإسرائيل في الحرب الجارية). وأكد ليو استمرار دعم بلاده "كدولة تنتمي إلى العالم النامي" للعمل مع "عدم الانحياز" من أجل تعزيز تطبيق مبادرات التنمية العالمية، والأمن العالمي والحضارة العالمية التي دشّنتها بكين في سياقات متباينة بهدف تحقيق مستقبل مشترك.
وتضاف المشاركة الصينية الفعّالة، والتي تجاوزت الدعم اللوجستي الكبير لحكومة أوغندا في تنظيم سلسلة من القمم الديبلوماسية الإقليمية والدولية في كانون الثاني الجاري، إلى جهودها الدؤوبة لفرض رؤيتها في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، وفي القلب منه الأزمة في غزة. يأتي ذلك وسط مخاوف غربية متصاعدة من انفلات الأوضاع في الإقليم، وأصوات متزايدة على نحو غير مسبوق منذ عقود، بضرورة وقف العدوان الصهيوني على غزة "كخطوة أولى" نحو تسوية تفاوضية للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.

خلاصة
جاءت "قمّة كمبالا"، التي اختتمت أعمالها أول من أمس، واستبقت بساعات قليلة قمّة مهمّة أخرى هي "مجموعة 77" مع الصين في العاصمة الإفريقية نفسها، لتمثّل علامة فارقة حقيقية على دور الحركة في مفترق طرق النظام العالمي الراهن، واختبار مدى جدية خطوات الجنوب العالمي في الدفاع عن مصالحه الجماعية، ومراجعة الغبن التاريخي الذي لحق بدوله جرّاء ممارسات الهيمنة والاستبداد الغربي طوال عقود سابقة. ولا ينفصل هذا التطوّر عن الأزمة الراهنة في غزة، والتي باتت، وفق مراقبين كثر، الامتحان الأول حالياً لدور الحركة ومساعيها إلى ضبط ومراجعة مجمل أوضاع "النظام العالمي" السائد.