رام الله | في أقلّ من ساعة واحدة، يمكن لجيش الاحتلال الإسرائيلي إغلاق الضفة الغربية بكاملها، وتحويل مدنها وقراها إلى سجون كبيرة، من خلال مئات الحواجز العسكرية، ونقاط التفتيش، والبوابات الحديدية، والحواجز الطيّارة، التي تنتشر من جنين شمالاً إلى الخليل جنوباً. على أن هذه الحواجز ليست وليدة الصدفة، بل جزء من استراتيجية عملت إسرائيل على ترسيخها منذ احتلالها الضفة عام 1967، بهدف تقطيع أوصال المدن والقرى والتجمّعات السكانية فيها، والتحكّم يتواصلها الجغرافي والديموغرافي، وقد بدأ شكلها الأوّلي يَظهر مع «الانتفاضة الأولى» عام 1987، لكنّها ترسّخت مع «الانتفاضة الثانية» كأداة تنكيل استراتيجية ترافقت مع بناء جدار الفصل العنصري.ومنذ اللحظات الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، قامت إسرائيل بفرض حصار مشدّد على مدن الضفة وقراها، وأقدمت على إغلاق المعابر التي تربط الأخيرة مع داخل «الخط الأخضر» والقدس المحتلّة. كما فعّلت شبكة واسعة من الحواجز العسكرية على مداخل المدن والبلدات، وعلى الشوارع، تطبيقاً لسيناريو العزل والفصل الهادف إلى التحكّم بالحركة والتنقّل، في ما يشبه الوضع الذي كان سائداً إبّان معركة «سيف القدسي » عام 2021، حيث جرى العمل لحماية المستوطَنات والمستوطنين على الطرق، على خلفية تصاعد العمليات الفدائية.
هكذا، تتحكّم قوات الاحتلال بمن يدخل ويخرج متى أرادت، بينما يتعرّض المواطنون على الحواجز لتفتيش وتأخير في مرورهم، بالإضافة إلى إجراءات التنكيل والضرب والاعتداء والاعتقال، وفي أوقات كثيرة لعمليات الاغتيال. وعلى سبيل المثال، يستغرق المواطن للوصول من مدينة رام الله إلى مدينة جنين في الأوضاع العادية قرابة ساعة ونصف ساعة إلى ساعتين، لكن مع هذه الحواجز، فإنه بحاجة إلى 6 ساعات إذا قُدِّر له أن يصل، ولم يُطلب منه بعد طول انتظار، العودة من حيث جاء. ولغاية السادس من تشرين الأول، بلغ عدد الحواجز العسكرية في الضفة، 567، منها 77 حاجزاً رئيساً، و490 حاجزاً هي بمثابة سواتر ترابية، ومكعّبات إسمنتية، وبوابات حديدية. لكنّ سلطات الاحتلال أضافت، منذ بدء العدوان، أكثر من 140 حاجزاً وعائقاً جديداً، بحسب تقرير نشره معهد الأبحاث التطبيقية «أريج».
ويقول مدير وحدة مراقبة الاستيطان في المعهد، سهيل خليلة، في حديث إلى «الأخبار»، إن «إسرائيل بدأت باستخدام الحواجز خلال الانتفاضة الأولى من أجل تحكّم جيشها بالضفة وتقسيمها إلى مناطق مفصولة بعضها عن بعض، بحيث لا يعود التواصل بين المدن والقرى ممكناً. لكنّ فكرة الحواجز أخذت، بعد الانتفاضة الثانية، منحًى أكثر اتّساعاً، وبدأت تتكرّس بشكل مختلف لفصل المدينة عن أريافها»، مشيراً إلى أن ذلك «ترافق مع بناء جدار الفصل العنصري الذي أَوجد أنواعاً من الحواجز مثل المعابر التي تفصل الضفة عن الخط الأخضر والقدس الشرقية». ويلفت خليلة إلى أن عدد الحواجز يرتبط بالحالة الأمنية؛ إذ «وصل إلى ألف حاجز في الضفة، وتناقص حتى وصل إلى 567 حاجزاً قبل 7 أكتوبر، ليرتفع اليوم إلى نحو 800، باتت تعمل على الفصل بين المحافظات، وبين المدينة وريفها لوقف عمليات التنسيق بين التجمّعات ومنع أيّ تظاهرات مشتركة أو أعمال أو اجتماعات عامة»، مبيّناً أن الحواجز «خلقت تداعيات اجتماعية واقتصادية وجغرافية وصحيّة بحرمان المرضى من الوصول إلى المستشفيات، وكذلك تداعيات على القطاع التعليمي، وهذا ما شهدناه من خلال توقّف التعليم في الجامعات».
أمّا التداعيات الاقتصادية الكبيرة فيرجعها خليلة إلى «صعوبة التحرّك بين المحافظات، والتي أدّت إلى ارتفاع كبير في أسعار الخُضر والفواكه والمواد الغذائية الأخرى»، فضلاً عن «تأثُّر عدد كبير من القطاعات الاقتصادية، بعدما أضحى التنقّل بين المدن والمحافظات أقلّ، خاصّة أن إسرائيل تستغلّ الحواجز للضغط على الشعب».
وفي المقابل، وانطلاقاً من رفضهم التسليم بالحصار الذي يفرضه الاحتلال، لجأ الفلسطينيون دوماً إلى مواجهة الحواجز بخلق طرق بديلة، عادةً ما تكون بين الأراضي الزراعية والجبال، وتزيد من معاناتهم وطول رحلتهم وتكلفتها وتحمل في طياتها خطورة أعلى. ويعتبر خليلة أن «جزءاً من شبكة الطرق البديلة تحوّل إلى طرق دائمة، على غرار طريق وادي النار الذي يربط شمال الضفة بجنوبها»، لافتاً إلى أن هذا الأخير كان «طريقاً ترابيّاً غير صالح للاستخدام للمواشي، وتحوّل إلى شارع رئيسيّ، ليشكّل في ما بعد تغييراً في الوضع الديموغرافي والاقتصادي في المنطقة، ويخلق واقعاً جديداً لم يكن في الحسبان».
أما المستوطنون، فإنهم يسلكون طرقاً حديثة معبّدة وسريعة، يستخدم جيش الاحتلال القوة والحواجز العسكرية لإبعاد الفلسطينيين ومنعهم من سلوكها، كما يحدث في حاجز عورتا الذي يتوجّه منه المواطنون إلى شمال الضفة. وخلال السنوات الماضية، سرقت إسرائيل آلاف الدونمات من قرى حوارة وبيتا والقرى المجاورة، وشقّت شارعاً استيطانياً أنجزته قبل أسابيع، لمرور المستوطنين عليه بعدما كانوا يمرّون من شارع حوارة، إثر عمليات المقاومة على هذا الأخير ومقتل العديد من المستوطنين. ويغلق الجيش، منذ أكثر من ثلاثة أشهر، حاجز حوارة ومفرق بيتا، ما جعل أهالي حوارة في «سجن كبير»، لا يُسمح لهم بالحركة داخله، ويتكبّدون خسائر اقتصادية كبيرة من جرّائه، تتمثّل في إغلاق أكثر من 255 منشأة اقتصادية.