كما كان متوقّعاً، وعلى وقع تعاطف دولي لافت جلّته الوقفات التضامنية الحاشدة مع الشعب الفلسطيني أمام مقر «محكمة العدل الدولية»، قوبل قرار الهيئة القضائية الدولية الأرفع، في القضية المرفوعة أمامها ضدّ إسرائيل، بردود فعل متفاوتة، راوحت بين الخيبة والأمل، علماً أن الولايات المتحدة كانت استبقت القرار، بالزعم أن الدعوى «لا أساس لها»، وأن «من شأنها أن تؤتي نتائج عكسية». وفي قرارها الأوّلي عقب النظر في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، وتتّهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أكّدت «العدل الدولية» أن على حكومة الاحتلال، وبصورة «فورية»، أن تبادر إلى «اتخاذ جميع الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال الواقعة ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية». وصوّتت لجنة المحكمة، بإجماع أعضائها، على حقّ المدنيين في قطاع غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، مؤكّدة توافر الشروط القانونية اللازمة التي تتيح لها دعوة إسرائيل إلى الالتزام بالتدابير المؤقّتة الواردة في مرافعة الفريق القانوني الممثِّل لجنوب أفريقيا.كما أكّدت «العدل الدولية» أن لديها صلاحية للحكم في القضية، وأنه «لا يمكن قبول طلب إسرائيل ردّها»، ذلك أن لكل الأطراف الموقّعة على «معاهدة منع الإبادة الجماعية» الحقّ في مقاضاة الأطراف الأخرى، في حال ارتكابها انتهاكات ما، جازمةً أن الطلب الجنوب أفريقي مطابق لسوابق مشابهة سبق أن عُرضت على المحكمة - في إشارة إلى حالات مماثلة في البوسنة وميانمار وأوكرانيا -، ومنسجم مع ما ورد في المادتَين السابعة والتاسعة من ميثاق المحكمة. وفي مستهلّ الجلسة، قالت رئيسة «العدل الدولية»، القاضية جوان دونوغو، إن محكمتها تدين «الحملة الإسرائيلية التي أدّت إلى مقتل نحو 25 ألفاً، وإصابة نحو 60 ألفاً، وتهجير عدد كبير من المدنيين الفلسطينيين»، مستدركة بالقول إن المحكمة لن تتّخذ الآن قراراً حول «وقوع الإبادة الجماعية من عدمها، وإنّما ستتّخذ قراراً حول إمكانية حدوث الإبادة». وعلى رغم إقرارها بأن التدابير المؤقّتة التي يجب اتّخاذها ليست بالضرورة مماثلة للتدابير التي طلبتها جنوب أفريقيا، شدّدت القاضية الأميركية على ضرورة إلزام إسرائيل قواتها العسكرية فوراً بعدم ارتكاب أيٍّ من الجرائم المنصوص عليها في «اتفاقية منع الإبادة الجماعية»، ومنها القتل العمد.
وفي معرض مطالبتها حكومة الاحتلال باتّخاذ تدابير فورية وعاجلة لتحسين الوضع الإنساني، وضمان توفير الإمدادات الإغاثية لسكان غزة، ووقف التدمير الذي تمارسه في القطاع، استندت المحكمة إلى بيانات «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا)، إضافة إلى ما تضمّنته دعوى جنوب أفريقيا من تقارير حقوقية وتصريحات لمسؤولين أمميّين. كذلك، توقّفت المحكمة، في قرارها، عند قلق جهات حقوقية ودولية مستقلّة من خطاب الكراهية الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين، بخاصة المواقف الموثّقة لقادة ومسؤولين في تل أبيب، كتشبيه وزير حرب الاحتلال، يوآف غالانت، الفلسطينيين بـ»الحيوانات البشرية»، معتبرة أن تلك المواقف تُعدّ كافية لاعتبار «المزاعم» الواردة في دعوى جنوب أفريقيا معقولة.

مواقف مرحّبة واستنكار إسرائيلي
فور الإعلان عن القرار، ساق وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، جملة اتهامات لـ»العدل الدولية»، ومن بينها اعتبار المحكمة «معادية للسامية»، والزعم أن عملها «لا يهدف إلى تحقيق العدالة». في المقابل، أعربت جنوب أفريقيا عن ارتياحها، مبديةً ترحيبها بدعوة إسرائيل إلى الالتزام بتطبيق الإجراءات المؤقّتة التي نادت بها بريتوريا. ووصفت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، الحكم بأنه «انتصار حاسم لسيادة القانون»، عادّةً إياه «منعطفاً مهمّاً في البحث عن العدالة للشعب الفلسطيني». بدوره، رحّب وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، بالإجراءات التي طالبت بها المحكمة، داعياً جميع الدول إلى ضمان تنفيذها، وحثّ إسرائيل على احترامها. أيضاً، أعربت حركة «حماس» عن رضاها على القرار، مشيرةً إلى أنه «يعني وقف كل أشكال العدوان» على الشعب الفلسطيني، مع تأكيدها تطلُّعها إلى ما وصفته بـ»القرارات النهائية للمحكمة بإدانة دولة الاحتلال بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية». ومن جهتها، أيّدت وزارة الخارجية السعودية ما صدر عن «العدل الدولية»، مؤكّدة «رفضنا القاطع لممارسات الاحتلال الإسرائيلي». وكذلك الأمر بالنسبة إلى قطر، التي رحّبت وزارة خارجيتها بالقرار، وعدّته «انتصاراً للإنسانية وسيادة حكم القانون»، معتبرةً أن «صدور الحُكم بأغلبية ساحقة يعكس حجم خطر الإبادة الجماعية المحدق بالفلسطينيين».
ثمّة مَن يرى أنّ قرار المحكمة لا يرقى إلى مستوى التطلّعات، ولا سيما أنه لم يطلب من إسرائيل وقف كلّ الأعمال العسكرية


تقييم متفاوت
ثمّة مَن يرى أنّ قرار المحكمة لا يرقى إلى مستوى التطلّعات، ولا سيما أنه لم يطلب من إسرائيل وقف كلّ الأعمال العسكرية، على غرار ما صدر عنها في حالة أوكرانيا. ومع ذلك، يشير خبراء في القانون الدولي إلى أنّ القرار ينطوي على «هزيمة قانونية وسياسية» لتل أبيب، وإنصاف لا لبس فيه للشعب الفلسطيني، خصوصاً أنه رفض كلّ الذرائع التي دفع بها الفريق القانوني الإسرائيلي، سواء في سعيه إلى إنكار التهم الموجّهة إلى «دولته»، وتصوير الحرب في غزة على أنها «دفاع عن النفس»، أو في محاولته الطعن في صلاحية المحكمة. كما أن القرار يرتّب مسؤوليات سياسية و»أخلاقية» على حلفاء إسرائيل الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، إذ إنه ينطوي على إدانة صريحة لكيان الاحتلال، ويحمل دعوة للجيش الإسرائيلي إلى وقف كلّ الانتهاكات وضمان وصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق، وهو أمر يتطلّب ضمناً توقّف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. والجدير ذكره، هنا، أن إحدى المحاكم في الولايات المتحدة شرعت بالفعل في النظر في دعوى قضائية تقدَّمت بها منظّمات حقوقية ضدّ مسؤولين في الإدارة الأميركية، من بينهم وزير الدفاع لويد أوستن، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين.
وفي تفسيره عدم دعوة المحكمة إلى وقف إطلاق النار، احتمل قانونيون غياب الإجماع بين قضاتها الـ15 (إلى جانب ممثّل لكلّ من جنوب أفريقيا وإسرائيل) على تبنّي هذا الإجراء، وبالتالي تفضيلهم تخفيف لهجة القرار للحفاظ على الإجماع في ما بينهم. ويعود ذلك إلى جملة اعتبارات قانونية منها ما يتعلّق بوجود صلاحيات حصرية لمجلس الأمن الدولي في التعامل مع حالات العدوان، ومنها ما يتّسق مع «الطبيعة الاستثنائية اللامتماثلة» بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيليي، خلافاً لحالات النزاع المألوفة بين جيشَيْن تقليديَّيْن، كما هو الحال بين روسيا وأوكرانيا. إلا أن آخرين لمّحوا إلى وجود خلفية سياسية لبعض ما تضمّنه قرار «العدل الدولية»، ولمسوا مؤشرات إلى وجود ضغوط دولية تعرّضت لها المحكمة، وتحديداً لناحية إمهال إسرائيل شهراً كاملاً لتنفيذ ما ورد في قرارها، وليس أسبوعاً، كما تطالب جهة الادّعاء.
وفي تعليقها على ذلك، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أن القرار يفتقد إلى «الإجراء الأقصى والأكثر صرامة، الذي انتظرته جنوب أفريقيا»، معتبرةً أن اكتفاء القضاة بدعوة إسرائيل إلى الالتزام بـ»تدابير مؤقّتة» يعادل أمراً قضائياً، وقد جاء متوافقاً مع ما توقّعه معظم الخبراء القانونيين. وفي هذا الإطار، قالت الأستاذة في جامعة «كوليدج لندن»، كيت كرونين فورمان، في حديث إلى الصحيفة: «لا أعتقد أن أحداً توقّع منهم أن يأمروا بوقف إطلاق النار». وتابعت الباحثة المتخصّصة في الدراسات القانونية حول جرائم الإبادة الجماعية وحقوق الإنسان: «لقد التزموا بشدّة بما فعلوه في أمر الإجراءات المؤقّتة ضدّ ميانمار»، في إشارة إلى قضية أخرى منظورة أمام المحكمة، حيث اتهمت غامبيا، ميانمار، بارتكاب إبادة جماعية ضدّ أقلية الروهينغا.