منذ التدخل الأميركي في سوريا بذريعة محاربة الإرهاب، عام 2014، مرّت خريطة الانتشار الأميركية بتقلبات عديدة، بين تمدّد تارة، وانحسار وانكماش تارة أخرى، تبعاً لتغيّرات الإدارات الأميركية ومشاريعها. غير أن الثابت الوحيد، وسط كل هذه التقلبات، محاولة الولايات المتحدة خلق مشروعين متوازيين يسمحان لها، حتى في حال الخروج، بضمان موطئ قدم لها على الأرض السورية. لكن التطورات الأخيرة، في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وعمليات فصائل المقاومة المستمرة ضد الوجود الأميركي في العراق وسوريا، وما تبعها من تسريبات متواصلة حول بحث واشنطن خطة للانسحاب من الأراضي السورية، وضعت هذين المشروعين أمام مخاطر الانهيار المتزايدة.وتنتشر القوات الأميركية، والتي تقول وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن قوامها 900 جندي فقط - رقم أقل بقليل من الواقع -، في نحو 17 قاعدة وأكثر من 20 نقطة. وتلك أرقام متغيرة باستمرار، بسبب حركة الانسحاب وإعادة الانتشار المتواصلة في عدد من النقاط والقواعد المنتشرة في الشمال الشرقي من سوريا، من جرّاء القصف التركي المتواصل على المواقع التي تنتشر فيها «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) الكردية. على أن الانتشار الأميركي تراجع بشكل كبير نهاية 2018 ومطلع 2019، عندما حاول الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، الانسحاب من سوريا، قبل أن تعاود واشنطن التمدد مرة أخرى، بعد صعود الرئيس الحالي، جو بايدن، ومحاولته استعادة التوازن مع الحضور العسكري الروسي الذي شهد تمدداً كبيراً لملء الفراغ الأميركي. وخلق كل ذلك خريطة انتشار معقدة، تباعدت خلالها خطوط التواصل بين النقاط الأميركية، لتتّضح معالم حضور متوازٍ في منطقتين على وجه الخصوص، لكل منهما مشروعها الخاص، وهما:
المشروع الأول، في الشمال الشرقي من البلاد (من الحسكة وصولاً إلى الرقة)، حيث تحاول «قسد» فرض «الإدارة الذاتية» بحكم الأمر الواقع، بدعم أميركي من شأنه أن يفتّت سوريا، ويخرج النفط السوري من المعادلة الاقتصادية للبلاد. ويبدو ذلك أشبه بعملية حصار اقتصادي داخلية، تأتي بالتوازي مع الحصار الخارجي الذي تفرضه قائمة العقوبات الطويلة (سواء قانون قيصر أو قانونا كبتاغون 1 و2)، والتي تهدف بمحصّلتها إلى منع أيّ محاولات لإنهاء الظروف الحالية أو تحسينها، من دون مقابل سياسي تنتظره واشنطن. ويعني ما تقدّم استمرار الحرب، وتواصل أزمة اللاجئين والنازحين السوريين، في ظلّ تراجع الدعم المالي للمنظمات الإنسانية التي كانت تقدّم بعض العون لهم.
التخلّي الأميركي عن الشمال الشرقي لا يرتبط بعدم جدواه فحسب، وإنما بصعوبة تأمينه مع ارتفاع الضغوط


أما المشروع الثاني، فهو في أقصى جنوب البلاد، وتحديداً عند المثلث الحدودي مع العراق والأردن، أو ما يعرف إعلامياً باسم «التنف»، حيث توجد أكبر قاعدة أميركية على الأراضي السورية، وأكثرها أهمية بالنسبة إلى «البنتاغون» الذي حرص على إيفاد أرفع مسؤوليه إليها لإجراء زيارات تفقدية. وتعود هذه الأهمية إلى موقعها الجغرافي، والذي تعتبر واشنطن أنه يقطع الطريق أمام التمدد الإيراني في المنطقة، فضلاً عن الدور الذي تلعبه في تأمين خاصرة إسرائيل. ولعلّ تلك النقطة هي التي حاولت الولايات المتحدة تثبيتها خلال محاولة ترامب سحب قواته من سوريا، إذ تخلّى حينها عن المناطق النفطية، وأعلن الإبقاء على قوات أميركية في منطقة التنف، قبل أن يعود عن قراره ويبقي على قواته في الشمال الشرقي من البلاد أيضاً.
على أن التخلي الأميركي السابق عن الأكراد، مع أول تفكير في الانسحاب من البلاد، والإصرار على الوجود في منطقة التنف، يؤكّد أهمية مشروع الجنوب القصوى، وهامشية المشروع الكردي، الذي تستعمله الولايات المتحدة كورقة ضغط سياسية في علاقتها مع تركيا، إذ تستمر في دعم الأكراد ومشروعهم، وتفسح المجال أمام الطائرات التركية لاستهدافهم بين وقت وآخر، الأمر الذي يضعهم، مع تواتر أنباء دراسة الانسحاب الأميركي من سوريا، أمام سيناريوات سابقة عاشوها فعلاً، عندما هرعوا إلى الحكومة السورية وروسيا بحثاً عن اتفاقية تمنع أي هجوم تركي واسع عليهم، قبل أن ينسحبوا من هذه الجهود إثر عدول واشنطن عن قرارها، الأمر الذي أغضب دمشق وموسكو. ويراكم هذا الأمر مجموعة كبيرة من التعقيدات أمام «قسد» في حال قررت المضيّ على الطريق نفسها مرة أخرى، علماً أنها تعود اليوم إلى التلويح بورقة «سجناء تنظيم داعش» والمخاطر المترتّبة على أي انسحاب أميركي، أملاً بالإبقاء على الوضع الراهن وطيّ أو تأجيل هذا الانسحاب الذي يعني بالنسبة إليها نهاية لمشروعها.
وفي حال اتُّخذ قرار الانسحاب، فإنّ التخلّي الأميركي عن الشمال الشرقي لا يرتبط بعدم جدوى هذا الوجود فحسب، وإنما بصعوبة تأمينه مع ارتفاع الضغوط العراقية لإخراج القوات الأميركية، وبالتالي إمكانية انقطاع سبل دعم ذلك الانتشار برياً، بالإضافة إلى قربه من العراق، والذي يجعله صيداً سهلاً للمقاومة، وهو ما يجري فعلياً على أرض الواقع. أما في الجنوب السوري، فكانت الأوضاع، حتى الأمس القريب، تبدو أكثر أماناً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في ظل التحصينات المتعددة الطبقات التي أجرتها لمناطق وجودها، بدءاً من استقدام منظومات دفاع جوي، وليس انتهاءً بهيكلة وتدريب فصائل عشائرية تابعة لها، تقوم بعمليات تمشيط متواصلة في البادية ومحيط القواعد الأميركية، بالإضافة إلى عمليات الإشغال والاستنزاف المتواصلة التي تتعرّض لها مواقع وجود الجيش السوري والفصائل التي تؤازره من قبل مسلحي تنظيم «داعش». كما يتيح وجود «التنف» على الحدود الأردنية، طرق إمداد وإسناد دائمة، تؤمن لهذه القاعدة الدعم اللازم، وهي النقطة التي ارتكزت عليها إدارة ترامب في قرارها السابق الإبقاء على القاعدة، كون تكلفتها تبدو قليلة. وعلى الطريق نفسه سار بايدن أيضاً، بمحاولته إضافة غطاء جديد على وجوده غير الشرعي في «التنف»، بحجة محاربة خطوط تهريب المخدرات، إلى جانب ذريعة محاربة الإرهاب. لكن سلسلة الاستهدافات التي طاولت القاعدة، ونجاح الطائرات المسيرة في الوصول إلى أهدافها داخلها، وتجاوزها جميع أنواع التحصينات، وإصابتها مواقع تأمين خلفية داخل الأراضي الأردنية (البرج 22 الذي تسبب بمقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة العشرات)، كل ما تقدّم ينزع عن «التنف» حصانتها، ويضعها بشكل متساوٍ مع جميع القواعد الأميركية غير الشرعية، ما يعني أن تكلفة البقاء فيها ستكون باهظة هي الأخرى.