غزة | أزيح الستار عن الحلقة السادسة عشرة بعد المئة، من العرض المهول نفسه. الأحداث التي تركّزت في جنوب غزة أخيراً، عادت في الأيام القليلة الماضية إلى شمال القطاع ووسطه. يوم الأحد، ارتكب جيش العدو 38 مجزرة عائلية، تسبّبت في استشهاد 350 شخصاً في محافظة خانيونس وحدها، دفن الأهالي 150 منهم معروفي الهوية، في باحة «مستشفى ناصر الطبي». وفيما طالبت وزارة الصحة في غزة بإجلاء 7000 جريح من الحالات الصعبة، إلى مستشفيات الخارج لتلقي العلاج، لم تسمح السلطات المصرية سوى بخروج 600 جريح. ووسط ذلك، تزدحم المستشفيات المحاصرة بالدبابات، بالمئات من المصابين الملقين على الأرض في الممرات وبين الزحام، حيث يلفظ بعضهم النفس الأخير، من دون أن يلتفت إليه أحد. ويوم الإثنين، ارتكب جيش العدو 14 مجزرة عائلية كبرى، وزعها بالتساوي بين محافظات غزة الثلاث: الجنوب والوسطى والشمال، ما تسبّب في استشهاد 215 شخصاً، وإصابة أكثر من 300 آخرين. أما الصحافيون، فلا يزالون عرضة للقتل؛ إذ قضى، أول من أمس، الزميل محمد عطا الله رفقة زوجته وأولاده في قصف استهدف المنزل الذي يؤويهم في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة. كما قضى الإعلامي عصام لولو رفقة زوجته وأولاده في قصف طال منزلهم في منطقة الزوايدة. وقبل ذلك بيومٍ واحد، استشهد الزميل إياد الرواغ، وتوفيت الزميلة سعاد سكيك، إثر توقف قلبها على نحو مفاجئ أثناء مكابدتها أهوال النزوح في مدينة رفح. وبهذا، ارتفع عدد شهداء الجسم الصحافي إلى 122، فيما أعادت مدفعية الاحتلال، أول من أمس، قصف «مستشفى العودة» في حي تل الزعتر، شمالي القطاع، رغم أنه يعجّ بالمئات من الجرحى والمرضى، توازياً مع تشديدها الحصار على «مجمع ناصر» للأسبوع الثاني على التوالي.
هكذا، لا تزال المجزرة مستمرة بفصولها كافة، فيما لم يطرأ على سلوك العدو أيّ تغيير، لا قبل قرار «محكمة العدل الدولية» ولا بعده. الجديد فقط، هو الفتور الذي يقابل به الجميع هذا الشلّال النازف من الدماء. ولسوء حظّ الفلسطينيين أيضاً، إنّ موسم القتل الحالي تزامن على نحو مستفزّ مع بطولتَي كأس أفريقيا وآسيا لكرة القدم، حيث أصبحت أخبار الفائزين والمتأهّلين في المباريات، تُزاحم أخبار الضحايا أو تجاورها، وصار مطلوباً من الفلسطينيّين، في بعض الأحيان، أن يفرحوا لأن جمهور أحد الأندية العربية، والذي لم يكلّف خاطره تنظيم تظاهرة أمام سفارة لإسرائيل أو الولايات المتحدة في عاصمة بلاده، قد رفع أعلامنا، وأعلى صوته في ذروة فورة الأدرينالين الرهيبة، بينما يسجّل لاعبه هدفاً في مرمى الخصم.
لا تزال المجزرة مستمرة بفصولها كافة، فيما لم يطرأ على سلوك العدو أيّ تغيير


في وسائل الإعلام العربية والدولية، وحتى المحلية، تغيب أيضاً صور المجزرة، وتتوارى أسماء الشهداء وحكاياتهم، فيما تَحضر الأعداد الباردة فقط. صحيح أن التوغل إلى قلب مدينة خانيونس، وتطويقها من الجهات الأربع، دفعا بالمئات من الصحافيين إلى تركها والنزوح منها إلى مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، ولكن الموت خلف الستار هو تشريع لزيادة القتل. أما في شمال غزة، حيث يأكل الناس علف الدواب وحشائش الأرض، فيغرق النازحون يومياً في معركة البقاء اليومية. يجهل أكثر من 500 ألف منهم ما يعيشه «كوكب العرب». يسألنا حاج تحكي تجاعيد وجهه عن عمرٍ تجاوز السبعين خريفاً: «يا بنية، العرب شايفين شو بيصير عنا؟ طيب المسلمين عارفين إننا بنموت من القذائف والجوع والأمراض والبرد؟ بلاش ما بدنا ييجو يقاتلوا معنا، بيطلعوا مظاهرات؟»، ليجيب نفسه: «يا ويلهم من الله، يا ويلهم لو ساكتين»، قبل أن يستغرق في موجة بكاءٍ حادة.