جنين | يتقاطرُ الأصدقاءُ والأقاربُ إلى بيتِ الجريح كمال خالد عرعراوي في مخيم جنين لتهنئته بالسلامة إثر العملية الجراحية الأخيرة التي أجريت له بإعادة عظمة مقدّمة الجمجمة، التي انتُزعتْ من رأسه لأشهر طويلة. وكان عرعراوي قد تعرّض للعمى بعد الإصابة الخطيرة التي تلقّاها في ميدان التصدّي لقوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياح الثالث والرابع من شهر تموز من العامِ الفائت لمخيم جنين.كان مشهد الاقتحام والمواجهة تراجيدياً عنيفاً، حصدَ إلى جانب إصابة كمال، ارتقاء ثلاثة من أعزائه، وهم: ابن عمه المقاوم مجدي (17 عاماً)، وصديقاه المقاومان علي هاني الغول (17 عاماً) وأحمد محمد عامر (21 عاماً). الثلاثة الذين ارتقوا في هذا الاجتياح هم من صلب مجموعات الفتيان المنضوين في «كتيبة جنين»، وقد أطلق الإعلام المحليّ عليهم لقب «أبطال كمين حارة الدمج». كما استشهد أيضاً، بحسب وزارة الصحة، سميح فراس أبو الوفا، وحسام محمد أبو ذيبة، وأوس الحنون، ونور الدين حسام مرشود، ومحمد الشامي.

كمال، الذي فقدَ بصره، يتذكّر معظمَ أصدقائه ببصيرته، يعرفهم من خلال أصواتهم، يجلس على سرير الشفاء في بيته تجلّله سكينة هائلة، وترتسم على ثغره ابتسامة طفولية صافية جميلة، تشعّ بالأمل والتفاؤل، خاصة عندما يردّد والده آخر عبارة وردت في تقاريره الطبية التي تقول: «هناك أملٌ في أن يعود شيء من الإبصار في عينه اليسرى، رغم وجود تهتّك في الأعصاب البصرية في العين اليسرى إلا أن القرنية ما زالت متماسكة».
خلال «الغزوة» الإسرائيلية للمخيم في التاريخ المذكور أعلاه، اقتلعت رصاصة قناص عينه اليمنى، وأطفأت النور في اليسرى، وما زاد ألمَه ارتقاء شقيقه محمود ابن «كتيبة جنين» المقدام في مواجهة ضارية بعد إصابته بنحو شهرين، واعتقال شقيقه الثالث مجدي، وتحويله إلى الاعتقال الإداري.
عندما تدخل بيتهم، ويستقبلك الأب والأم وابنهما الممرض أيوب، المتبقّي لهما في البيت، تلحظ سواد الحداد في ملابسهم، لكنه سواد ممتلئ بابتسامة صبر جميل، واحتساب عميق، ينسيانك كزائر، أو كصحافي، ولو للحظات، ما أصاب هذه العائلة التي أضحت نموذجاً من نماذج الفداء والتضحية والرضى على طريق القدس والحرية والخلاص من الاحتلال والعودة إلى مسقط الرأس في قرية المنسي البديعة على ضفاف المنطقة الشمالية الوسطى من ربوع مرج بن عامر الخلاب في قضاء حيفا.
يبدأ والده الحديث مع أصدقائه بشيء من الدعابة، يضحكون جميعاً، فالسخرية من الموت والأوجاع والمحن إحدى سمات هذا المخيَّم الجبار. يبتسم كمال بهدوء، فيشاركهم الحديث ببعض من صور المواقف التي كانت تمر عليه مع أصحابه قبل الحادثة، فتتواصل الضحكات، وتنتشر أجواء من الفرح الخجول لبعض الوقت، ثم تعود لحظات الصمت الطويل من الجميع والعيون ترقب كمال وأباه ووالدته التي دخلت لتوّها بالقهوة للضيوف، مرحّبة، ثم تعاتب هذا وتلوم ذاك من أصدقاء كمال برفق، لأنهم في بعض الأحيان يتركون كمال وحده طويلاً.
لقد أصبحت أمه تخاف عليه من كل شيء، حتى من الضجر، رغم هدوئه الفريد، فيستمعون، ويتفاعلون، ويبرّرون، لكنهم معتادون على ذلك العتاب القادم من قوة العلاقات الأسرية في المخيَّم. لقد خلقت أجواء المواجهة مع الاحتلال ترابطاً متيناً جديداً بين أسر المخيَّم.
يعود مشهد اللقاء إلى السؤال الجدي، أحدهم يحاول تقليد الكبار في السؤال عن آخر ما تقوله الفحوصات والتقارير عن حالة كمال، وهو ينفث الدخان من سيجارته التي تعوّد عليها مبكراً كما يبدو. يبدأ الوالد بشرح ما عاناه في استخلاصه من كلام الأطباء، سواء كان ذلك في فلسطين أو في الأردن، عن بصيص الأمل في أن يعود إلى ابنه الجريح الكفيف جزء من نور البصر، لكنه يتذكّر أن هذا الأمل مرتبط بالبحث عن علاج في الخارج، ويبدي استعداده للذهاب به إلى أيّ مكان في العالم لتحقيق ذلك، مهما كان الثمن، رغم ضيق ذات اليد.
وقبل أن تتسلل إلى عيني والده دمعة حزن، أو شعور قهر يقاومه في صدره، ينظر أصدقاء كمال إلى وجه صديقهم، فيكسرون تلك الحالة بالقول: ستعود ترى مثلنا حتماً... لا تقلق. يبتسم كمال، ويقول بابتسامة الهادئ الواثق التي تغطي وجهه النضر: سيكون ذلك إن شاء الله... عندها سأحقق الأمنية الغالية على قلبي.
فهم الحاضرون مغزى كمال، وما يقصده بالأمنية، صمت الوالد، فنهض الأصدقاء يريدون المغادرة، وهم يعدون كمال بالعودة إليه غداً في ساعات المساء، ويستحلفونه بالإفصاح عما يريد أو يحتاج... يتعفّف ويشكرهم قائلاً: تعالوا مبكراً، أريد أن أخرج من البيت، أريد أن نمشي معاً، لقد مللت الجلوس وحيداً، وأريد اللقاء بكم طويلاً.