غزة | واحدة من أكثر المفاجآت التي خالفت التوقّع الشعبي، والتي كشف عنها انسحاب دبابات العدو من المناطق الشمالية الغربية لشمال غزة، هو أن آلة التدمير الإسرائيلية وضعت المشاريع التنموية التي دشّنتها كل الدول الإقليمية التي تربطها بها علاقات سياسية وثيقة، على مسافة واحدة أمام كباش جرافة الـ«d9». في منطقة الأميركية، غرب مدينة بيت لاهيا، تتراصّ ثلاثة مشاريع موّلتها جهات إقليمية متنافسة سياسياً: الأول، هو مدينة الأمير السعودي نايف بن عبد العزيز، المكوّنة من 16 برجاً سكنياً ومدرسة ومسجد ومنتزه ومرفق ثقافي؛ والثاني، مدينة الإسكان المصرية أو «دار مصر 3» والتي بدأ العمل على بنائها عقب معركة «سيف القدس» عام 2021، ضمن رزمة مشاريع أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي لإعادة إعمار القطاع بقيمة 500 مليون دولار، وكان من المفترض أن يتمّ تسليم شققها لمستحِقّيها في نهاية العام الماضي؛ والثالث، الواقع إلى الغرب من «دار مصر»، الجزءان المصري والقطري من طريق الكورنيش الغربي، المعروف بشارع الرشيد، والذي بدأت اللجنة القطرية لإعادة إعمار القطاع بتشييده في عام 2012، وافتُتح في عام 2015، ثم أكمل المصريون بناء الجزء الشمالي منه قبل مدة وجيزة. وليس بعيداً من المشاريع الثلاثة، تقع مدينة الشيخ زايد، المشروع الإسكاني الأكبر الذي موّلته الإمارات، و افتُتح عقب الانتفاضة الثانية في عام 2005، والمكوّن من أكثر من 80 برجاً سكنياً ومسجد ومحلات تجارية وحدائق وشبكات كهرباء ومياه خاصة به.تلك المشاريع الأربعة، هي الوجه التنموي لرغبة الدول الأربع في تحصيل أكبر قدر من النفوذ في الملف الفلسطيني. وفي الوقت الحالي، يتقدم القطريون على من سواهم في صياغة اتفاقيات التهدئة، فيما يزاحم المصريون على حصة أكبر من المشهد. هذا من وجهة نظر سياسية، أمّا من الناحية الإنسانية، فإن آلاف الأسر التي كانت تسكن تلك المدن السكنية، أضحت اليوم بلا مأوى، بعدما سوّت الدبابات والجرافات الإسرائيلية أبنيتها بالأرض. يقول أبو أحمد، وهو واحد من جيران المدينة المصرية: «كنا نتوقع كل إشي، إلا إنهم يدمروا المدينة المصرية إلي كان المفروض تفتتح في نهاية العام الماضي، يعني بعد الحرب بعدة أسابيع. كنا نعتقد، إنو بسبب علاقات مصر مع دولة الاحتلال، رح يعملوا خاطر إلهم، وما يهدموا المدينة قبل ما تفتتح حتى، لكن الواضح الإسرائيليين مش شايفين حد بالعين».
تدمير المدن السكنية، المبنيّة على مساحات محدودة من الأرض، أكثر تأثيراً وضغطاً من تدمير أحياء كاملة


من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب، أن الخسارة التي يشكلها هدم تلك المدن السكنية، «مركبة وخطيرة جداً؛ إذ إن كل برج سكني مكون من عشر طبقات، يشكل مأوى لأكثر من 60 عائلة، وقد أثبتت التجارب السابقة، أن آخر ما يتم الالتفات إليه في عمليات إعادة الإعمار، هو الأبراج، فالأبراج التي هدمت في حروب عامَي 2014 و2021، لم يُعَد إعمارها حتى اللحظة»، مضيفاً: «يعني ذلك أن عشرات الآلاف من الأهالي سيبقون بلا مأوى لسنوات، وخصوصاً مع الشحّ الشديد في الشقق السكنية التي يمكن استئجارها». ويلفت أبو جياب إلى أن «العدو لم يُقم أي اعتبار لعلاقاته السياسية مع الدول الإقليمية، ودمّر كل شيء بغرض الانتقام من الناس، ورفع مستوى الضغط في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار»، موضحاً أن «تدمير المدن السكنية، المبنيّة على مساحات محدودة من الأرض، أكثر تأثيراً وضغطاً من تدمير أحياء كاملة بنيت فيها الوحدات السكنية بشكل أفقي».
على الطريق الذي يصل بين حي المنطقة الأميركية وشارع الرشيد، سيكون بوسعك أن تشاهد الكرفانات التي كان يبيت فيها المهندسون المصريون، والتي تتوسطها صورة السيسي والأعلام المصرية، وبقايا النصب التذكاري لافتتاح مدينة الأمير نايف بن عبد العزيز، وآخر لافتة من لافتات «شكراً قطر» التي عُلقت حينما افتُتح شارع الرشيد قبل عدة سنوات... كلّ ذلك يجمعه عامل مشترك واحد، هو الدوس عليه بجنزير دبابات «الميركافا».