رام الله | على أنقاض قرية القسطينة المهجّرة التي كانت تتبع لقضاء غزة قبل الاحتلال الإسرائيلي، الذي أقام على عظام أهلها ومنازلهم مستوطنة "كريات ملاخي"، نفّذ ابن مخيم شعفاط في مدينة القدس، فادي جمجوم، عملية مدوّية هزّت إسرائيل، ومنظومتها الأمنية. ويأتي ذلك فيما أهلُ غزة الذين ينحدر جُلّهم من القرى والبلدات المحيطة بالقطاع، والمعروفة اليوم بـ"غلاف غزة"، يتعرّضون اليوم لخطر التهجير والترحيل، في سيناريو مشابه لِما واجهه من قَبل آباؤهم وأجدادهم، لكنهم هذه المرّة يرفضون ذلك، ويتعهّدون بالتصدّي لجميع المخطّطات. وتبعد القسطينة 46 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من غزة المدينة، وتحيط بها أراضي قرية تل الترمس من الشرق، والمسمّية الكبيرة من الشمال، وياصور وأراضي تعبيا من الشمال الغربي، ومن غربها مباشرة كانت قرية البطاني، أمّا من جنوبها، فكانت تحدّها السوافير، وهي قرى دُمرّت بالكامل وهُجّر أهلها، وتحديداً القسطينة، إلى جنوب غزة. وتجيء العملية في ذروة استنفار أمني غير مسبوق منذ 4 أشهر، جرّاء العدوان على غزة، لتؤكد من جديد فشل الاحتلال في تحقيق الأمن لمستوطنيه، وخصوصاً في المناطق القريبة من القطاع.وفي تفاصيل الهجوم، نجح جمجوم في الوصول على متن مركبته إلى محطّة حافلات قرب "كريات ملاخي"، حيث باشر بإطلاق النار من مسدسه الشخصي باتجاه الجنود والمستوطنين، ما تسبّب بمقتل مستوطنَين وإصابة 4 آخرين بجروح وصفت بعضها بالخطيرة، قبل أن يطلق مستوطن مسلّح النار عليه، ويهرع بعدها عناصر الاحتلال إلى المكان. وفي الوقت نفسه، تحدّثت معلومات الشرطة عن وجود شخص آخر قدّم المساعدة للمنفّذ، ما دفع عناصرها إلى القيام بعمليات بحث واسعة بمشاركة المروحيات، والطلب من المستوطنين في المستوطنات القريبة ملازمة منازلهم.
إذا ما صدقت المعلومات بتنفيذ جمجوم العملية منفرداً، فإن ذلك سيزيد الضغط والثقل على أجهزة الاحتلال الأمنية


وعلى غرار كل عملية فدائية تسفر عن قتلى في صفوف المستوطنين والجنود، هرع وزير "الأمن القومي"، إيتمار بن غفير، إلى مكان تنفيذ العملية، مستغلّاً الحادثة ليجدّد تهديداته، ويدلّل على صحة دعوته إلى توزيع السلاح على المستوطنين، قائلاً: "توزيع الأسلحة ينقذ الأرواح، سأوسّع سياستنا للسماح للمواطنين الإسرائيليين بتسليح أنفسهم". وشدّد على أنه "لا ينبغي للمرء أن يرمش (يتردّد في مواجهة) في وجه الإرهاب. يجب سحق المخرّبين"، محرّضاً أيضاً على لبنان، بالقول إن "ما يحدث في غزة يجب أن يحدث في لبنان"، وإن "الإرهابيين لا يفهمون إلّا لغة القوّة ويجب أن ندمّرهم". وفيما رجّح مفوّض الشرطة بن شبتاي، وقائد منطقة الشرطة المركزية آفي بيطون، أن يكون جمجوم قد نفّذ العملية بمفرده، قائلَين: "(إنّنا) نفهم أن المخرّب الذي قُتل على ما يبدو تصرّف بمفرده"، قال رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إن "عملية كريات ملاخي تذكّرنا بأن كل البلاد أصبحت خطّ مواجهة"، وإن "المخربين لا يأتون فقط من غزة لقتلنا".
وبذلك، تكون العملية الفدائية قد بدّدت الوهم الإسرائيلي المتمثّل في القدرة على توفير الأمن للمستوطنين على حساب الدم الفلسطيني، ومن خلال ارتكاب المجازر، وخصوصاً أنها وقعت في منطقة تسعى إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر، إلى إعادة المستوطنين إليها. كما أن للهجوم الذي يعدّ من أقوى العمليات الفدائية منذ بدء الحرب على غزة، الكثير من الدلالات التي لا يزال بعضها غير معلوم، ولا سيما لناحية مكان وقوعه، والذي يبعد عن مدينة القدس نحو 65 كيلومتراً. فهل كان المنفّذ على علم مسبقاً بالمكان وقام برصده، علماً أن التنفيذ جرى في وقت الذروة الذي تشهد فيه هذه المحطّة زحمة مستوطنين وجنود، وذلك قبل دخول "السبت اليهودي" (لم تكشف سلطات الاحتلال عن هوية القتلى والمصابين، وما إذا كانوا جنوداً أو مستوطنين)؟ أيضاً، جاءت العملية بعد أيام من تحذيرات أمنية واستخبارية عالية، من مغبة انفجار الضفة الغربية، على أبواب قدوم شهر رمضان بعد أقل من شهر، وهو ما يجعلها نموذجاً أو "بروفة" لِما سيكون عليه الوضع في هذا الشهر، وتحديداً في القدس التي يُتوقّع أن تشهد تصعيداً كبيراً من قِبَل جيش الاحتلال.
وإذا ما صدقت المعلومات بتنفيذ جمجوم العملية منفرداً، فإن ذلك سيزيد الضغط والثقل على أجهزة الاحتلال الأمنية، التي يبدو أنها فشلت في إيجاد حلّ لظاهرة "الذئاب المنفردة"، وبالتالي سيكون عليها مواجهة سيناريو مشابه في أيّ وقت وفي أيّ مكان. وإذا ما استطاع "ذئب" واحد الوصول إلى مكان استراتيجي بسلاح ناري، فإنه سيكون قادراً على إيقاع خسائر كبيرة في صفوف المستوطنين والجنود.