غزة | إلى جانب الأهداف العسكرية التي أعلن جيش الاحتلال أنه يسعى إلى تحقيقها في حي الزيتون، في الجنوب الشرقي لمدينة غزة، مرّر، خلال الأيام القليلة الماضية، الحديث عن سقف مرتفع لطموحاته هناك. إذ قالت «إذاعة البث الإسرائيلية» إن الهدف النهائي للعملية التي «قد تستمر طوال أسابيع»، هو «تشكيل إدارة محلية غير متربطة بحركة حماس، تقوم بدور رعاية شؤون الناس، وتنظيم استلام المساعدات وتوزيعها من دون أي تدخل من جهات أمنية أو حكومية تابعة للحركة»، على أن يتم تعميم تلك التجربة، عبر استنساخها في مناطق أخرى في وقت لاحق. هكذا، يسعى العدو إلى إعادة إنتاج تجربة «روابط القرى»، التي كان قد شكّلها في مطلع الثمانينيات في بعض مدن وقرى الضفة الغربية، حيث عمدت الإدارة المدنية الإسرائيلية إلى التواصل مع شخصيات عائلية كبيرة، وأخرى كانت تنشط في المجال السياسي، وأوكلت إليها مَهمّة إدارة وتنظيم الشؤون المدنية والاجتماعية والاقتصادية، ليشكّل هؤلاء حلقة الوصل بين السكان وجيش الاحتلال. ويحمل هذا الهدف الإسرائيلي المعلن في غزة، طموحاً يقفز عن الواقع الاجتماعي للناس في القطاع، وقناعة العائلات ونظرتها إلى الخيانة والعمالة، باعتبار الأخيرة أقبح الذنوب التي لا تغسلها كل مياه البحر، فضلاً عن التعامي عن وضعية المقاومة التي لا تزال تحافظ على حضور قوي في الميدان.
والواقع أن أكثر ما يتداوله الأهالي في غزة، حكايا عن أولئك الذي اعترفوا بارتكابهم كل الموبقات والآثام والجرائم، إلا أنهم رفضوا أن يتهموا بالخيانة؛ فعلى سبيل المثال، عمِل شاب طموح في مجال الجمعيات الخيرية، في أثناء السنوات التي أعقبت حرب عام 2014 مثلاً، وتحصّل على تمويل كبير من متبرعين في أوروبا والدول العربية. وعندما لمع نجم الشاب وزادت أصوله الشخصية، استُدعي لمقابلة الجهات الأمنية في القطاع للتحقيق في سر الثراء المفاجئ، فما كان من الشاب إلا أن سافر في صبيحة اليوم التالي عبر معبر بيت حانون، إلى واحدة من الدول الأوروبية. ثم بعد سنوات قضاها الرجل المتهم باختلاس عشرات الملايين من الدولارات، عاد إلى غزة بقدميه، وسلم نفسه إلى الأجهزة الأمنية، وتنازل عن ثروته التي تحصل عليها بشكل غير مشروع، فقط لأن إشاعة تداولتها العائلات عن أنه هرب لوجود شبهات أمنية حوله بارتباطه بجهاز «الشاباك» الإسرائيلي. ذات يوم، التقيتُه وسألته عن سبب عودته، فأجاب قائلاً: «أنا اختلست، سرقت، اعملت كل إشي غلط في الدنيا، لكن ما خنت، ولا ممكن أخون، ولا بقبل حدا يجيب على سمعة عيلتي غبار».
وإذا كان التباين في القناعات هو سمة البشر، فإن ثمة أزمات أكثر تعقيداً تعترض نضوج «روابط القرى»، من الناحية الاجتماعية أيضاً. فمنطقة حي الزيتون مثلاً، والتي تفتّق ذهن صانع الخطة الإستراتيجية الإسرائيلية عن التجريب فيها، لم يسجَل تاريخياً أن عائلة واحدة منها توافقت بتلك السهولة على مختار يقودها، «فكيف من الممكن أن يتوافق أهالي الحي على مختار خائن؟»، يتساءل مصدر عائلي من الحي. ويضيف الرجل، في حديث إلى «الأخبار»: «مش لاقيين إلا الزيتون يجرّبوا فيها، العالم عنا بحياتهم ما توافقوا على إمام جامع أو مؤذن، بدك يقبلوا يقودهم خائن، والله إذا حدا بيقبل يتعامل مع الإسرائيليين ما رح تطلع عليه شمس».
وبعيداً من كل الاعتبارات الاجتماعية، يعلّق مصدر مقرب من المقاومة على الأخبار المتداولة في هذا الخصوص قائلاً: «إذا ظل من المقاومة خمسة شباب، معهم ثلاث بنادق ورصاصتين، كون واثق إنو الرصاصات رح يستقرن في راس كل شخصية ممكن تقبل تتعامل مع الإسرائيلي». ويضيف، في حديثه إلى «الأخبار»: «إعدام الخائن عملية سهلة، نظيفة، لا يختلف عليها اثنان».