مرّ أكثر من أسبوع على التقرير الذي نشره خبراء معيّنون من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة، وتحدّث عن وجوب التحقيق في اعتداء قوّات الاحتلال الإسرائيلي جنسيّاً بأشكال متعدّدة على المعتقلات الفلسطينيات، وقيامه بتجريدهنّ من ملابسهنّ وتفتيشهنّ من قِبل ضبّاط ذكور. إلّا أنّ أيّاً من الوسائل الإعلامية المهيمنة في الغرب لم ينقل الخبر بعد، في وقت تمعن فيه منذ أشهر في اختلاق التقارير المزيّفة التي تدّعي قيام المقاومة الفلسطينية باعتداءات جنسية من دون دليل.أكثر من ذلك، راحت هذه الوسائل الإعلامية تنشر خبراً حول تقرير قدّمته «مراكز أزمات الاغتصاب الإسرائيلية» الأربعاء الماضي حول ما سمّته «الاعتداء الجنسي الممنهج والموجّه» إلى النساء من قِبل مقاومي «حماس» أثناء عمليّة «طوفان الأقصى»، ويقول معدّو التقرير إنّهم استندوا إلى مقالات من هذه الوسائل نفسها، بما فيها «رويترز» و«نيويورك تايمز» و«BBC»، إضافة إلى وسائل إعلام إسرائيلية مثل «هآرتس»! أي بتعبير آخر، ترى هذه الوسائل الإعلامية المنحازة نفسها موضع ثقة أكثر من الأمم المتّحدة وخبرائها، فتكذب الكذبة وتصدّقها!
وكان معدّو تقرير الأمم المتّحدة قد تحدّثوا عن تعرّض نساء فلسطينيّات «للإعدام تعسفيّاً في غزّة، غالباً مع أفراد من عائلاتهنّ، بمن في ذلك أطفالهنّ»، وأضافوا: «صُدمنا من التقارير التي تتحدّث عن الاستهداف المتعمّد والقتل، خارج نطاق القضاء، للنساء والأطفال الفلسطينيّين في الأماكن التي لجأوا إليها أو أثناء فرارهم. بعضهم كان يحمل قطعاً من القماش الأبيض عندما قتلهم الجيش الإسرائيلي أو القوّات التابعة له». وأعرب الخبراء عن قلقهم البالغ إزاء الاعتقال التعسفي لمئات النساء والفتيات الفلسطينيّات، مشيرين إلى أنّ عدداً من المعتقَلات تعرّضن لمعاملة «غير إنسانية ومهينة»، وحُرمن من الفوَط الصحّية والطعام والدواء، وتعرّضن للضرب المبرح، واحتُجزن مرّة على الأقلّ «في قفص تحت المطر والبرد من دون طعام».
ويكمل التقرير: «نشعر بالأسى بشكل خاصّ إزاء التقارير التي تفيد بأنّ النساء والفتيات الفلسطينيّات المحتجَزات تعرّضن أيضاً لأشكال متعدّدة من الاعتداء الجنسي، مثل تجريدهنّ من ملابسهنّ، وتفتيشهنّ من قِبل ضبّاط ذكور في الجيش الإسرائيلي. ما لا يقلّ عن معتقلتَين فلسطينيّتَين تعرّضتا للاغتصاب، بينما ورد أنّ أخريات تعرّضن للتهديد بالاغتصاب والعنف الجنسي». وأضاف معدّو التقرير أنّ الاحتلال صوّر المعتقَلات في ظروف مهينة «التقطها الجيش الإسرائيلي» وقام بتحميلها على الإنترنت، متحدّثين عن عدد غير معروف من النساء والأطفال الفلسطينيّين، بمن فيهم الفتيات، ممّن اختفوا بعد وقوعهم في يد قوات الاحتلال في غزّة. ودعا الخبراء إلى إجراء «تحقيق مستقلّ ومحايد وسريع وشامل وفعّال».
كلّ هذه الفظائع لم تسترعِ اهتمام الإعلام الغربي، ولو أنّها مُثبتة ومصدرها الأمم المتّحدة التي يدّعي هذا الإعلام حرصه على مواثيقها وقراراتها، ويعيّر الدول والكيانات التي لا تعجب حكوماته على ما يراه خرقاً منها لهذه القرارات، ولو كانت قرارات وهميّة من نسج خياله. وحدها CNN شذّت عن القاعدة، لكنّ الشبكة التي تذمّر موظّفوها قبل مدة بسبب تحيّزها الموجّه من رأسها، وتعليمات رئيسها التنفيذي ورئيس تحريرها مارك تومسون حول التذكير الدائم بـ«هجوم حماس وجرائمها» («الأخبار» 7/2/2024)، لم تفعل ذلك سوى للدفاع عن كيان الاحتلال. هكذا، نشرت CNN مقالاً عن تقرير الأمم المتّحدة مفخّخاً برواية الاحتلال إلى حدٍّ أفقد التقرير أيّ قيمة وعكس الاتّهام على المقاومة.
المقال الذي أعدّه كلّ من ريتشارد روث، وكريم الدمنهوري، وريتشارد آلن غرين، تحت عنوان «خبراء من الأمم المتّحدة يطالبون بالتحقيق في مزاعم قيام القوّات الإسرائيلية بقتل واغتصاب واعتداء جنسي على نساء وفتيات فلسطينيّات»، كان مليئاً بعبارات مثل «ما وصفوه» و«لم يوضح التقرير بالتفصيل كيف حصل تقصّي الحقائق» و«CNN لا تستطيع التحقّق من هذه الادعاءات بشكل مستقلّ» و«إسرائيل رفضت هذه الاتّهامات»، وغيرها الكثير من تعابير لم لا تستخدمها الشبكة أبداً في تقاريرها التي لا تُحصى حول زعمها قيام مقاومين فلسطينيّين بجرائم اعتداء جنسي. فوق ذلك، قام معدّو المقال بالاتّصال بكلّ من القوات الإسرائيلية ومكتب رئيس الحكومة الإسرائيلي للأخذ برأيهم، وهو بالطبع ليس إلا نفياً لتقرير الأمم المتّحدة ولعب دور الضحيّة بادّعاء أنّ الأمم المتّحدة لا تتكلّم عن جرائم مزعومة بحقّ المستوطنين في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. كذلك، ذكر المقال أنّ CNN سبق أن أخذت شهادة «ناجية» من مهرجان «نوفا» الموسيقي، ونقل أنّ «إسرائيل» اتّهمت الأمم المتّحدة مرّة أخرى بالتزام «الصمت تجاه العنف الجنسي المروّع والعنف الجندري الذي ارتكبته «حماس» في 7 تشرين الأول ومنذ ذلك الحين». ببساطة، كان من الأجدى على CNN أن تحذو حذو زميلاتها بعدم نقل الخبر، لكنّها أبت إلّا أن تضع نفسها في مقدّمة ترسانة الحرب الصهيونية، متفوّقةً حتّى على الإعلام الإسرائيلي!
CNN وضعت نفسها في مقدّمة ترسانة الحرب الصهيونية، نافية عن الإسرائيليين اتهامات الاغتصاب


وواجه الإعلام الغربي حملة غضب على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تعتيمه الذي لا يدع مجالاً للشكّ بنيّته الواضحة الوقوف إلى جانب آلة القتل والإبادة الصهيونية. العتب الأكبر كان على الوكالات الإخبارية التي تتحف العالم بقدراتها على نقل أخبار العالم شتّى وتقصّي الحقائق وعدم الانحياز، وعلى رأس هؤلاء «رويترز»، لكنّ الأخيرة لم يعد انحيازها مستتراً كما كان قبل «طوفان الأقصى»، إلى درجة لم تتجرّأ على إدانة كيان الاحتلال حتّى عندما أثبت تحقيق أجرته بنفسها أنّ دبّابة إسرائيلية كانت وراء استشهاد المصوّر لديها اللبناني عصام عبدالله. إزاء هذا الواقع، عاد فضل انتشار الخبر إلى مواقع التواصل، فغطّت على «تقصير» الإعلام الغربي المتعمّد وشكّلت بنفسها وسيلة الوصول إلى الناس. أمّا بالنسبة إلى الإعلام العربي، فبعضه تجاهل الخبر أيضاً، فيما لم ينقل الإعلام الإسرائيلي سوى الجزء المتعلّق برفض الاتّهامات وتقديم اعتراض لدى الأمم المتّحدة. في كلّ الأحوال، مهما حاول الإعلام الغربي ومن ورائه حكوماته وآلة الإجرام الصهيونية إخفاء الحقيقة، إمّا عبر تزوير الحقائق أو تجاهلها أو التعويل على قتل الاحتلال للصحافيّين، فإنّ الرأي العام العالمي تغيّر إلى غير رجعة، وكذلك مواقف الأمم المتّحدة وحكومات العالم، والجرائم موثّقة والتاريخ سيحاسب.