رام الله | رحل عنّا، قبل أسبوع، إحدى أعمدة الفن والثقافة في فلسطين، وكبار الموسيقيين من الجيل الذهبي: مصطفى الكرد (1945 ـــ 2024) شيّع جثمانه يوم الثلاثاء من المسجد الأقصى إلى مثواه الأخير في «مقبرة المجاهدين» في شارع صلاح الدين في القدس. الكرد مغنٍ وعازف ومؤلف ومسرحي وملحّن، أسهم في تأسيس الحركة الفنية والموسيقية الفلسطينية الملتحمة بحركة التحرّر الوطنية، فاعتُبر إحدى رموز الفن السياسي والأغنية السياسية. غنّى لشعراء المقاومة أمثال سميح القاسم، ومحمود درويش، وخليل توما، وراشد حسين، وفدوى طوقان، وتوفيق زيّاد وعز الدين مناصرة. أسس باكراً نمطاً مسرحياً أصيلاً تحت اسم «العرض الفنّي» بالشراكة مع المسرحي الراحل فرانسوا أبو سالم، إذ مزج بين المشاهد المسرحية لأبو سالم والفقرات الغنائية للكرد. نجح الراحل في تطوير لون موسيقي متجدّد خاص به يقترب من نمط سيد درويش، وسيد مكاوي، والشيخ إمام لكن بروح مقدسية فلسطينية. نمط يستوحي القدس وفلسطين وأهلها، قريب من الشارع والحارة، وموجّه إلى الجماهير صغارها وكبارها، ذو مضامين شعبيّة معبّأة بالسياسة والتحريض، فكان صوت القدس الخارج من حنجرة ابنها. استلهم في فنّه القدس وتاريخها، فدمج بين العزف على العود العربي، والأناشيد والإيقاعات الصوفية، والأغاني البيزنطية، والموسيقى الأوروبية، والفولكلور الفلسطيني، وموسيقى القيثارة، عبر أغنيات ستظل ترافق الفلسطينيين طويلاً، أهمها أغنية «السكّة» التي يشدو فيها: «هات السكّة وهات المنجل... أوعى يوم عن أرضك ترحل» التي باتت رمزاً لتمسّك الفلسطيني بأرضه، ليبدو رحيله في زمن الإبادة والتهجير كأنّه بعثٌ جديد، فتراه مطلاً من السماء بلحيته الناعمة ووجهه النحيل يصيح بالناس «أوعى يوم عن أرضك ترحل».
رأى أنّ زمن الأغنية السياسية والثورية لم ينته ودعا إلى مقاطعة الإمارات المطبّعة

وُلد مصطفى درويش الكرد (أبو درويش) في القدس عام 1945، وهُجّر منها إلى أريحا عام 1948، عقب إصابة عمّه في معركة النوتردام، قبل أن يعود إليها عام 1950. درس العود عام 1962، وبدأ بتأليف أغنياته الخاصة، متأثراً بنكبة فلسطين الثانية عام 1967، وما فتئ يتغنّى بالوطن والأرض ويقاوم ويبني ويؤسس إلى أن وافته المنيّة. في عشرينياته، عمل في اللجنة الفنية لـ «نادي القدس الرياضي»، ثمّ أسهم في تأسيس «معهد القدس للفنون والمسرح» عام 1970. عمل في عام 1974 مسؤولاً للأنشطة اللامنهجية في جامعة بيت لحم، وسجّل في العام نفسه أولى أسطواناته في مكتب صلاح الدين في القدس، لتصدر لاحقاً في فرنسا. سجّلها بالتعاون مع فرقة المسرح الفلسطيني «بلالين» التي أسهم في تأسيسها واعتبرت الفرقة المسرحية الأولى في القدس وفلسطين بعد عام 1967. ضمت الأسطوانة التي حملت عنوان «أرض وطني» أغنيات عدة منها: «أنا فلّاح»، و«المحراث» و«بيت إسكاريا» و«البحّارة» من كلمات الكرد، و«الجلاد» من كلمات الشهيد المناضل كمال ناصر الذي اغتالته يد الاحتلال في بيروت عام 1973. اعتقل عام 1976 إدارياً أكثر من مرّة بسبب نشاطه الفني والثقافي، ثمّ أُبعد ونُفي خارج الوطن. لم يثنه المنفى عن استكمال مسيرته في الفن السياسي الملتزم. هكذا، شارك في تأسيس فرقة «نوح إبراهيم الموسيقية» في بيروت، وألّف موسيقى وثائقي «تل الزعتر» عام 1977، وفي العام نفسه، أصدر «فلسطين، حبي». غادر بعدها لبنان إلى ألمانيا، حيث درس البيانو والتأليف الموسيقي في «أكاديمية غوتينغن» في ألمانيا، ثمّ درس الموسيقى في «جامعة برلين الحرة». بين عامَي 1980و1983، حلّ ضيفاً مشاركاً في كلية العلوم الموسيقية فيها. في عام 1980، أصدر «أحلم بالغد» و«صوت من فلسطين»، وألّف موسيقى مسرحية «قاذف الحجر» عام 1982. وقدّم في أوروبا العديد من العروض الفنية والموسيقية، وشارك في «مهرجان برلين للأغنية السياسية» في شرق برلين، و«مهرجان الموسيقى الشعبية» في فانكوفر وعدد من المهرجانات الأخرى في العالم. سجّل في المنفى أغنيات عدة منها «بدون جواز سفر» (كلمات راشد حسين)، التي سُجّلت على الهواء مباشرة خلال «مهرجان يوروفيجين البديل» في بروكسل. كما غنّى مع الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس، ومع فرقة «إينتي إليماني» التشيلية والمغنية والناشطة الجنوب أفريقية ميريام ماكيبا والبرتغالي خوسيه أفونسو، والأميركي بيت سيغر. عاد الكرد إلى الوطن عام 1985 ليؤسس قسم الموسيقى في مسرح «الحكواتي» (عام 1986) الذي تحوّل عام 1992 إلى قسم الموسيقى في مركز القدس للموسيقى العربية.
مع اندلاع «انتفاضة الحجارة»، تعرّض للاعتقال من جديد عام 1987 على إثر إطلاقه ألبوم «أطفال الانتفاضة» الذي ضمّ أغنية «حجر وبصل ودلو من الماء» التي ترمز إلى أسلحة أطفال الانتفاضة في مقاومتهم للمحتل، إذ قذفوا الاحتلال بالحجارة لطرده واشتمّوا البصل لمقاومة الغاز المسيل للدموع، واستخدموا دلو الماء لكتم قنابل الغاز التي يطلقها الاحتلال لتفريق الجماهير. وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أصدر ألبوم «القدس» ثمّ مجموعة أناشيد بعنوان «دورة القدس» التي عرضت للمرّة الأولى في صيف 1990 في حفلة موسيقية أقيمت في دير «الكنيسة اللوثرية» في البلدة القديمة. وفي عام 1992، أصدر «أطفال من فلسطين»، تلته في العام التالي مجموعة أغنيات «فوانيس» بالاشتراك مع فنانين سويسريين وفلسطينيين. بالشراكة مع مروان عبادو، ألّف موسيقى فيلم «الصبّار» لباتريك بورغه عام 2000. وصدرت له عام 2009 مجموعة أغنيات بعنوان «المدّاح»، كما ألّف خلال مسيرته الفنية موسيقى مسرحيات عدة.
ألّف موسيقى وثائقي «تل الزعتر» عام 1977


كثائر يأبى أن يُسقط بندقيته، تمسك «أبو درويش» بعوده ومبادئه وقضيّته، وناضل ضد الاحتلال والتطبيع والتهويد في مدينته ومسقط رأسه ومدفن جسده القدس. رفض الفنّ الهابط والتجاري، ورأى أنّ زمن الأغنية السياسية والثورية لم ينته، منتقداً وسائل الإعلام والفضائيات التي تبرز اللون التجاري فقط ولا تتيح للجمهور خيارات أخرى. سجّل الكرد توقيعه في شهر أيلول (سبتمبر) 2020، على بيان «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية»، مع مجموعة من الفنانين العرب، إذ تعهدوا فيه بعدم المشاركة في أي فعالية يرعاها نظام الإمارات أو ترعاها شركة أو مؤسسة متواطئة في تنفيذ اتفاقية التطبيع الإماراتية – الإسرائيلية، إلى أن تنهي الإمارات تطبيعها وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان.
في عام 1991، نظم الشاعر الفلسطيني عبدالقادر العزّة قصيدته «ملك العود» التي خصصها لمديح عزف الكرد على العود، وقال فيها: «يا مصطفى الكرد... يا غرّيد دارتنا... إيّاك نرجو... لتلحين الأناشيد باب العمود تعزّى عن مظالمه... لمّا شدا مصطفى بالصوت والعود»