رام الله | بنَت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة، على رواية مليئة بالأكاذيب التي حبكتها أجهزة استخباراتها، بهدف استقطاب دعم واسع من دول العالم، وتمويه فشلها الأمني والعسكري في السابع من أكتوبر. هكذا، أرادت دولة الاحتلال، التي أصيبت في العمق آنذاك، تحميل العالم مسؤولية ما جرى لها، وإشراكه في عدوانها. وفيما كانت الولايات المتحدة أول المستجيبين لذلك، بفتحها جسراً جوياً لتزويد حليفتها بكل أنواع الدعم العسكري، فقد تجنّدت، في الموازاة، ماكينات إعلامية عالمية للتحريض على الفلسطينيين، ومهاجمة كل مَن يطالب بوقف الحرب أو إنقاذ المدنيين. ومن بين الأكاذيب التي تبنّتها تلك الماكينات، استخدام المقاومة للمستشفيات كمقارّ أمنية، ووجود تعاون بين المقاومة و«الأونروا»، بل ومشاركة عدد من موظّفي الوكالة في عملية «طوفان الأقصى»، في ما استهدف بوضوح التمهيد للإجهاز على المنظمة الأممية، وتالياً شطب حقّ العودة وإلغاء قضية اللاجئين.وفي الأسابيع الماضية، كثّفت حكومة بنيامين نتنياهو وماكينتها الإعلامية، تحريضهما على «الأونروا»، في «مناورة» لقيت استجابة عدد من دول العالم، التي انصاعت وجمّدت تمويلها للوكالة. وترافقت تلك الحملة مع اعتقالات واسعة شنّها جيش الاحتلال، استهدفت العاملين في «الأونروا»، بدعوى مشاركتهم في أحداث أكتوبر. وفي هذا الإطار، كشفت الوكالة أن السلطات الإسرائيلية احتجزت عدداً من موظّفيها في قطاع غزة، الذين أبلغوا عن حوادث مروّعة تعرّضوا لها أثناء احتجازهم واستجوابهم، شملت أعمال تعذيب، وسوء معاملة، وإساءة واستغلالاً جنسيَّين، حتى أن بعضهم أُجبر على الإدلاء باعترافات تحت التعذيب، حول «العلاقة بين الأونروا وحماس، وتورّط الأولى في هجمات السابع من أكتوبر». وبحسب الوكالة، فإن «هذه الاعترافات القسرية تُستخدم من قِبَل السلطات الإسرائيلية لنشر مزيد من المعلومات المضلّلة حول الأونروا، في إطار محاولات تفكيكها». ولم يقتصر الأمر على التضليل الإعلامي، بل إن مؤسسات «الأونروا» مثّلت أحد الأهداف الإسرائيلية في العدوان على غزة؛ إذ تعرّضت مثلاً مدارسها - المحمية بموجب القانون الدولي - للقصف والاستهداف المباشرَين، رغم احتضانها آلاف النازحين، فيما أفادت الأرقام الصادرة عنها بأن عدد موظفيها الذين قتلوا منذ بداية الحرب، يصل إلى 162، وهو «غير مسبوق في تاريخ الأمم المتحدة».
وفي السياق نفسه، خرج أحد الناطقين باسم جيش الاحتلال، أخيراً، ليتّهم الوكالة بتوظيف أكثر من 450 مسلّحاً من حركة «حماس» وجماعات مسلّحة أخرى، مشيراً إلى أن إسرائيل أرسلت هذه المعلومات الاستخباراتية إلى الأمم المتحدة، لتردّ «الأونروا» بترحيبها بجميع المعلومات التي يمكن تضمينها في التحقيق المستقلّ الذي تجريه المنظّمة الدولية حالياً. ووفقاً لمديرة الاتصالات في الوكالة، جولييت توما، فإن «الأونروا تشجّع أيّ كيان لديه أيّ معلومات عن المزاعم الخطيرة جداً ضدّ موظفيها، على مشاركتها مع التحقيق الجاري في الأمم المتحدة»، لافتةً إلى أن الوكالة أنهت عقود 12 موظفاً اتّهمتهم إسرائيل بالمشاركة في «طوفان الأقصى»؛ علماً أن 16 دولة أوقفت تمويل «الأونروا» (البالغ 450 مليون دولار) بشكل مؤقت، فيما بلغ مجموع التمويل المعلّق 450 مليون دولار، وذلك رغم أنّ إسرائيل لم تقدّم أيّ دليل على اتّهاماتها. والجدير ذكره، هنا، أن الوكالة توظّف 13 ألف شخص في غزة، وتقدّم المساعدة اليومية إلى أكثر من نصف سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، فيما تواجه صعوبات بالغة في تأمين احتياجات اللاجئين بسبب تجميد تمويلها من بعض الدول، وتقليصه من قبل أخرى.
وتعليقاً على ما يجري من استهداف للوكالة، قال المفوض العام لـ«الأونروا»، فيليب لازاريني، إنه لا مكان آمناً يقصده سكان غزة، محذّراً من أنه رغم كل الفظائع التي عاشوها، وشاهدناها، «يبدو أن الأسوأ لم يأتِ بعد»، لافتاً إلى أن الهجوم على رفح التي يتركّز فيها نحو 1.4 مليون نازح، يبدو أنه أصبح وشيكاً. وأكد أنه لا قدرة للوكالة على استيعاب الصدمات المالية خاصة في ظلّ احتدام الحرب، محذّراً أيضاً من أن تفكيك «الأونروا» الذي تطالب به إسرائيل، سيؤدي إلى التضحية «بجيل كامل من الأطفال»، و«زرع بذور» نزاعات مقبلة. واعتبر أنه «من السذاجة» الاعتقاد بأن «زوال الوكالة يمكن أن يتم من دون تهديد السلام والأمن العالميَّين». وكان لازاريني قد نبّه، في رسالة إلى رئيس الجمعية العامة أواخر شباط الماضي، إلى أن الوكالة وصلت إلى «نقطة الانهيار، مع دعوات إسرائيل المتكرّرة إلى تفكيكها وتجميد تمويل المانحين في مواجهة الاحتياجات الإنسانية غير المسبوقة في غزة». وقال لازاريني في رسالته تلك: «عدد القتلى في غزة صاعق. تفيد التقارير بمقتل أكثر من 30 ألف فلسطيني خلال 150 يوماً فقط. هذا يعني أن 5% من السكان ماتوا، أو أصيبوا، أو فُقدوا. من المستحيل وصف المعاناة في غزة بشكل كافٍ». ومن جهته، حذّر الناطق السابق باسم «الأونروا»، سامي مشعشع، في مقال له، من مخاطر بلورة موقف دولي لتشكيل بديل للوكالة، لافتاً إلى أن ما تضمّنته كلمة المفوض العام لـ«الأونروا» يحمل إشارات مقلقة، حين أنهى خطابه بالقول: «وأخيراً، أحثّ تلك الدول التي تبحث عن بدائل للأونروا على أن يكون ذلك بطريقة لا تمسّ بحق لاجئي فلسطين في تقرير المصير وبحق تطلّعاتهم إلى حل عادل ودائم لمحنتهم».