على جري العادة، عكس خطاب «حال الاتحاد»، الذي ألقاه الرئيس الأميركي، جو بايدن، مساء الخميس، والذي تميّز بنبرة عالية وأداء قوي، وفق معايير «لغة الجسد»، أبرز الملامح الرئيسية للسياستَين الداخلية والخارجية للبيت الأبيض، وذلك على وقع احتدام المواجهة السياسية بينه وبين غريمه، الرئيس السابق دونالد ترامب، بينما يتّجهان إلى خوض نسخة مكرّرة من «رئاسيات عام 2020» في تشرين الثاني المقبل.
هموم داخلية وعناوين خلافية مع ترامب
على رغم من ما أريد إضفاؤه من طابع ارتجالي على الخطاب، إلا أن هذا الأخير حمل دلالات واضحة على مدى الجهد الذي بذله الرئيس الأميركي الأكبر سناً في التاريخ، بهدف إقناع الناخبين بـ»هامشية» معضلة كبر سنّه، من قَبيل إشارته إلى أن سنواته الحادية والثمانين جعلته يرى الأمور «أوضح من أيّ وقت مضى». كذلك، لم يَغفل، خلال مخاطبته الجمهور الأميركي، وفي مسعاه لتفنيد سياساته الداخلية، عن تسليط الضوء عمّا لمّح إليها بوصفها المنجزات «التي لم تتم تغطيتها» من قِبَل الإعلام، ومن جملتها مؤشرات التعافي الاقتصادي التي سجّلها عهده خلال السنوات الأولى بعد جائحة «كورونا»، إلى جانب محاولاته جسر الهوة مع الحزب الجمهوري، ولا سيما في القضايا الخلافية، كالهجرة. وفي موازاة ذلك، خصّص بايدن جزءاً من خطابه لمهاجمة المقاربة «التي عفا عليها الزمن» المنتهجة من جانب خصمه، ترامب، سواء في الملفات الداخلية (كالإجهاض والإصلاح الضريبي)، أو الخارجية (كالموقف من حرب أوكرانيا و»الناتو»)، مستخدماً «شعارات انتخابية» دأب عليها أسلافه من الرؤساء الديموقراطيين، ولا تقلّ شعبوية عن تلك التي لا ينفكّ يردّدها سلفه الجمهوري، على غرار تعهده بـ»زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات»، و»خفض الفاتورة الدوائية» على المواطنين.

مقترح غزة في مرآة الإعلام الأميركي
ما بدا كعلامة فارقة في خطاب «حال الاتحاد» لهذا العام، هو تسخير بايدن منبر الكونغرس للإعلان عن إصداره توجيهات للجيش الأميركي من أجل إقامة رصيف بحري مؤقت على سواحل قطاع غزة، مع توجّهه بشكل مباشر إلى حكومة بنيامين نتنياهو، ودعوته إياها إلى «الاضطلاع بمسؤولياتها» لناحية إدخال المزيد من المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية والغذائية إلى سكان القطاع الفلسطيني المحاصَر. وتابع بايدن أنه «لا يمكن للمساعدات الإنسانية أن تكون مسألة ثانوية أو ورقة مساومة»، مضيفاً أن «حماية وإنقاذ أرواح الأبرياء (في غزة) يجب أن يكونا الأولوية». كذلك، أعلن التمسّك بـ»الدور القيادي للولايات المتحدة» على الصعيد الدولي، وتعهّد بـ»الوقوف في وجه (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين» في ظلّ تحديات جمّة تواجهها بلاده بدءاً من أوكرانيا، وليس انتهاءً بفلسطين المحتلة.
وإذا كان استحواذ «البرنامج الخارجي» لبايدن، على جانب كبير من الخطاب هذه المرّة، قد جاء مخالفاً لـ»بديهيات» السياسة الأميركية، التي درجت على اعتبار «حال الاتحاد» مناسبة حصرية لمخاطبة الجمهور الأميركي وأعضاء الكونغرس، ممَّن غالباً لا تحتلّ قضايا السياسة الخارجية أولوية قصوى في اهتماماتهم، وهواجسهم، فإنه يمكن وضعه في سياق الضغوط المتزايدة على البيت الأبيض في ملف الحرب على غزة، ولا سيما من الداخل، مع تحوّل تلك الحرب إلى أحد أبرز عناصر تراجع شعبية بايدن في الشارع الأميركي، وفق ما أَظهرته انتخابات «الثلاثاء الكبير» الأسبوع الماضي. ومما عزّز من جدية ذلك المؤشّر، احتشاد العشرات من المتظاهرين والناشطين الحقوقيين الأميركيين المعارضين للحرب في محيط مبنى «الكابيتول» في واشنطن، قبيل إلقاء بايدن كلمته، وصولاً إلى حدّ محاولة بعضهم اعتراض موكبه على طول الطريق المؤدّي إلى الكونغرس.
استحواذ «البرنامج الخارجي» لبايدن، على جانب كبير من الخطاب، جاء مخالفاً لـ«بديهيات» السياسة الأميركية


وتعليقاً على ذلك، اعتبرت شبكة «سي إن إن» أن التعهدات التي أطلقها بايدن حول غزة، تشي بتخوّف الرئيس من «انقسام الائتلاف السياسي الداعم له» بفعل سياساته الداعمة للعدوان الإسرائيلي على القطاع، في حين ذهبت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن التعهدات المشار إليها تأتي في سياق تعرضه لـ»ضغوط على الصعيدَين الدولي، والمحلّي للجم إسرائيل»، مؤكدة أن «العنف الدائر (في غزة)، بات يشكّل تهديداً» لحظوظ بايدن في الفوز بولاية ثانية. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين، تأكيدهم أنْ لا مؤشرات على أن الرجل بصدد التصادم مع حكومة نتنياهو، معتبرين أن «السبيل الأفضل» للتعامل مع الوضع في غزة، من منظور مسؤولي إدارة بايدن، يقوم بإنجاح المساعي الرامية للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لعدة أسابيع، ضمن صيغة تقوم على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، في موازاة توفير المزيد من الإمدادات الإنسانية لغزة. ولفتت إلى أن «خطاب حال الاتحاد» ينطوي على هدفَين مزدوجَين تسعى إليهما إدارة بايدن، وهما: محاولة «إرساء الهدوء» في المنطقة، من جهة، و»الحد من أيّ ضرر قد يمنع إعادة انتخابه»، من جهة ثانية.
لكنّ خطوة بايدن، والتي قالت «منظمة الإغاثة الدولية» إنها «ليست حلاً» للأزمة الإنسانية في غزة، عدّتها صحيفة «واشنطن بوست» «دليلاً إضافياً على إحجام الرئيس الأميركي عن الوقوف في وجه العرقلة الإسرائيلية المستمرة لإيصال المساعدات الإنسانية، واستمرار رفضه استخدام النفوذ الواسع والاستثنائي الذي تتمتّع به الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، باعتبارها الداعم العسكري الرئيسي لها، بغية حثّها على تغيير المسار الكارثي للحرب». ونقلت «واشنطن بوست» عن الأستاذ الجامعي في قسم التاريخ في جامعة الكويت، بدر السيف، قوله إن خطاب بايدن يُظهر مدى الحاجة إلى «تغيير النبرة (الأميركية)» تجاه إسرائيل، موضحاً أنّه «لا يتعيّن على بايدن توجيه النداءات لإسرائيل، بقدْر ما يتوجّب عليه إصدار الأوامر لها»، في إشارة إلى ما يوفّره الدعم الأميركي لإسرائيل من نافذة تأثير، مشدّداً على أن التعاطف الذي أظهره بايدن حيال الفلسطينيين في «خطاب حال الاتحاد» بدا «تكتيكياً»، بداعي الحاجة إلى تهدئة الجمهور المحلي الذي يخسره. وانطلق السيف من قدرة الولايات المتحدة على توفير المساعدات للفلسطينيين عبر طرق أخرى، غير تلك المبيّنة في خطّة الرئيس الأميركي، واصفاً مقترح إقامة رصيف بحري على شواطئ القطاع بـ»المثير للضحك والسخرية»، بالنظر إلى ما يتطلّبه من وقت، و»الالتفافي» باعتباره وسيلة لـ»القفز» فوق وسائل أخرى يمكن من خلالها إيصال الدعم الإنساني والإغاثي إلى غزة. ورأى أن تلك الخطة تبعث بـ»إشارة سيئة، في ما يتعلّق بالقيادة الأميركية (في المنطقة)، ذلك أنها تعزّز الانطباعات التي يحملها الكثير من العرب، حول انسياق الولايات المتحدة خلف كل ما تقوم به إسرائيل».