يَحلف ناجي شانلي تورك، نائب «حزب الحركة القومية»، حليف «حزب العدالة والتنمية» في السلطة، عن منطقة أوردو، قائلاً: «لو كُنّا نمتلك القوّة، والله لكُنّا ذهبنا إلى إسرائيل وتدخّلنا. والله لَتَدَخّلنا. لكنّنا لا نمتلك القوّة. مع الأسف، ليس في مقدورنا فعل أيّ شيء سوى المزيد من الإدانة. لكن رئيس جمهوريتنا، الرئيس العام لحزبنا، يقول كلاماً جميلاً: إسرائيل ستختنق قبل قدوم يوم الحشر». ومنذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، عَلَت أصوات كثيرة داخل تركيا، مطالبةً الحكومة باتّخاذ إجراءات عملية ضدّ المجازر الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، وعدم الاكتفاء بالخُطَب العالية السقف التي يتلوها رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، فيما زعماء المعارضة، مثلاً، ملّوا من نداءاتهم لوقف الصادرات التركية إلى إسرائيل، أو تخفيض مستوى العلاقات الديبلوماسية معها. لكن البواخر المحمّلة بالخضر والفاكهة الطازجة والمواد الغذائية، لا تتوقّف عن الإبحار إلى موانئ العدو، في وقت تضرب فيه المجاعة سكان القطاع، حتى بات أطفاله ونساؤه يلملمون بأكفّهم بعض طحينٍ ممزوج بالتراب.
متين جيهان، الصحافي الأبرز الذي «تخصّص» بتعقُّب حركة السفن التركية تجاه موانئ العدو، كشف بالوقائع حركتها كما حمولتها. والخلاصة، أنها كانت تصل بمعدّل ثماني سفن يوميّاً، فيما يُفترض أن يكون عددها قد بلغ، وصولاً إلى اليوم، ما يقرب من الألف سفينة، محمّلة بالإسمنت والفولاذ والأسلاك الشائكة، وغيرها. وكان جيهان يعدّ السفن وما تحمله وفقاً لخرائط وبيانات مراكز الملاحة الدولية. وهو كتب، يوم الإثنين الماضي، قائلاً: «في هذه اللحظة بالذات، تمّ تسجيل وصول ست سفن تركية إلى موانئ إسرائيل. ماذا تَحمل؟ كلّ ما تحتاجه إسرائيل من إسمنت وفولاذ وغيرهما. يعني الأدعية لفلسطين والسفن لإسرائيل. الإدانة واللعنة لا تغيّران شيئاً».
وفي مقابل موقف السلطة، كان رئيس «حزب السعادة»، تيميل قره موللا أوغلو، الأكثر حركةً في الدفاع عن القضية الفلسطينية؛ إذ يقول إن «العالم يتفرّج فيما ترسل تركيا كل يوم المواد الغذائية والأسلاك الشائكة إلى إسرائيل. سيأتي يوم يحاسَب فيه الظالمون وكل مَن لم يسعَ إلى وقف عدوانهم». والموقف نفسه ينسحب على زعيم «حزب الرفاه من جديد»، فاتح إربكان، الذي فضَّ تحالفه مع إردوغان، مذكّراً بأن «تركيا تعطي كل يوم إسرائيل الأسلاك الشائكة من أجل تطويق المسجد الأقصى وتعطيها الفولاذ والقطع العسكرية. هذا أمر مخجل، ولكن السلطة لا تَخجل». حتى أوزغور أوزيل، زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، الذي يَعتبر «حماس» حركة «إرهابية»، ويساويها بـ«الإرهاب الإسرائيلي»، خاطب إردوغان بالقول: «يا سيّدي الرئيس، كل يوم أقرباؤك وزوجتك وأصدقاؤك والموالون لك يقومون بالتجارة البحرية مع إسرائيل. ما دامت التجارة مستمرّة، فلن يتوقّف الظلم، ولن يتوقّف الدم. أوقفوا التجارة مع إسرائيل. كونوا أصحاباً لفلسطين».
من جهته، يكتب المفكّر الإسلامي، أحمد طاش غيتيرين، أن «التجارة مع إسرائيل باتت أمراً معيباً لتركيا. اللافتات المعارِضة لذلك، والتي تُرفع في المهرجانات التي يقيمها إردوغان، سرعان ما تُصادَر ويُعتقَل أصحابها. وفي أحد الاجتماعات التي عقدها وزير الخارجية، حاقان فيدان، سُئل عن السبب وراء استمرار التجارة مع إسرائيل، فكان الجواب اعتقال السائل! المفارقة أن المحتجّين هم من الفئات المحافِظة التي تزعم السلطة أنها منها. لم يَعُد مفهوماً بعد مضيّ ستة أشهر، استمرار التجارة مع إسرائيل. الوضع لم يَعُد مقبولاً. لماذا لا تقوم تركيا بهذا الإجراء وتمنع تصدير مواد استراتيجية، مثل الحديد والفولاذ والإسمنت والأسمدة، إلى إسرائيل؟». ويتابع طاش غيتيرين: «إردوغان يلتزم الصمت ولا يجيب. ليس لأنه لا يرى، ولكنه مطالَب بالإجابة على مَن يسألون وكلّهم من الفئات المحافِظة التي تشكّل غالبية حزبه. هل إلى هذه الدرجة يشعر إردوغان بالحرج من الإجابة عن هذا السؤال واحتمال أن يخلق مشكلات؟ هل إلى هذه الدرجة تركيا مجبرة على التصدير لإسرائيل؟».
المفارقة أن المحتجّين على التجارة مع إسرائيل، هم من الفئات المحافِظة الذي تزعم السلطة أنها منها


وفي الاتجاه نفسه، يقول الكاتب إبراهيم قهوجي، في صحيفة «قرار»، إن «حزب العدالة والتنمية كان يهدّد إسرائيل بالقيام بعمل عسكري، ولكنه كان واضحاً أنه لن يبادر إلى خطوة واحدة ضدّها، وكل ذلك من أجل الانتخابات البلدية، وهو يعتقد أن مواجهة إسرائيل تكون بمقاطعة الهمبرغر والكوكاكولا أو المحلات التي يعمل فيها بائعون أتراك. لقد وجد هذه الصيغة مناسبة ومربحة». ويتساءل: «لماذا لا تخرج في مدن تركيا التظاهرات في نهاية كل أسبوع كما يحدث في شوارع أوروبا، بل حتى في تل أبيب ضدّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو؟»، معتبراً أن أسوأ ما يمكن أن يكون عليه الجواب، هو ذاك الذي أعطاه وزير التجارة، عمر بولات، حين قال إن «صادرات تركيا إلى إسرائيل هي أساساً للفلسطينيين، ولكنها تمرّ عبر الجمارك الإسرائيلية، فتَظهر كما لو أنها مرسَلَة إلى إسرائيل». ورداً على هذا الجواب، يسأل الكاتب: «وهل الأسلاك الشائكة تذهب إلى الفلسطينيين؟ ولماذا يموت الناس جوعاً في غزة إذا كانت هذه الصادرات تذهب إليهم وليس إلى الإسرائيليين؟».
أمّا إبراهيم كيراس، في «قرار»، فيستهجن «تناقض الحكومة ليس مع قاعدتها فقط، بل أيضاً مع مجتمع ضخم يُظهر حساسيّته تجاه ما يحدث في غزة. والقاعدة، بدورها، لا تسأل بجدّية حتى لا يتأثّر وضع الحكومة»، محمّلاً المسؤولية لجمهور الفئة المحافِظة المؤيّد لـ«العدالة والتنمية»، والذي يذهب بمعدّلات عالية إلى صندوق الاقتراع «ليس حبّاً بالديموقراطية، بل خوفاً من أن يأتي "الآخرون"(العلمانيون). واليوم، جميعهم صامتون تجاه غزة وتجاه موقف الحكومة لأن الأولوية هي لبقاء السلطة الحالية».