خليل صويلح
اختلطت صرخته الأولى بولادة بقرة وأتان في اللحظة نفسها. كانت الأم قابلة شعبية. لم تلجأ إلى أحد لمساعدتها خلال المخاض. استلّت سكيناً وقطعت حبل السُّرة. يستعيد محمد الوهيبي لحظة ولادته كما روتها الأم. ولادة طفل وعجل وحمار في ليلة واحدة، كانت فألاً حسناً وفقاً لمعتقدات تلك المرأة المعذّبة. لكنّ رياح النكبة هبّت على تلك القرية الفلسطينية عند حدود طبريا، بعد سنة واحدة على ولادة الطفل. لا يذكر هذا التشكيلي الفلسطيني مكابدات اللجوء ومغادرة الأرض الأولى، كما سيغيب وجه الأب عن ذاكرته. إذ توفي بعد عامين من النزوح.
في مخيم وادي العجم عند تخوم جبل الشيخ، نشأ الطفل الشريد، وتشبّعت عيناه بمناظر الطبيعة وكائنات البراري ورائحة النباتات. في المدرسة الابتدائية، كان يساعد مستخدم المدرسة في تنظيف باحة المدرسة، مقابل حصوله على قطعة طبشور «كنت أرسم على أسفلت الطريق أشكالاً غرائبية، وطيوراً وتعاويذ». بؤس الحياة التي عاشها باكراً، علّمه أن يتصالح مع الموت «لم نكن نشعر بمعنى الموت. كنا نجلب النعناع البري ونضعه تحت الجسد المسجّى، قبل أن يُزفّ إلى المقبرة.. كان الموت شأناً عادياً لا يستدعي الحزن أو الألم». النشأة في محيط بدوي ورعوي لا تخلو من فخاخ، قد نتلمّسها لاحقاً في لوحاته المثقلة بالرموز والميثولوجيا المحليّة. فقد تراكم لديه حس تراجيدي، يعتقد أنه تشبّعه خلال إنصاته إلى أغاني أمه في الأحزان والأفراح «كنت أرافق أمي وأخزّن مفرداتها، فتسللت إلى خطوطي وألواني في اللوحة».
يشرد قليلاً، ثم يقول متذكراً: «مرةً كنّا في زيارة إلى شقيقتي التي كانت تقطن في الجولان. وعندما اقتربنا من حدود فلسطين توقفت أمي، ورفعت ثوبها قائلة: أريد أن أُدخل هواء فلسطين إلى عُبي. ثم أكملنا المسير».
القبور ثيمة أساسية رافقت الوهيبي إلى اليوم «كنت أزيّن القبور برسوم غامضة أستوحيها من طقوس الموت والندب على الموتى. وحين انتسبت إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق، اخترت «المأتم الفلسطيني» موضوعاً لمشروع تخرجي، في قسم الحفر». بداية، لم يدرك هذا التشكيلي القلِق، أسباب هذه التراجيديا، ولم يفكّر في الأصل في أن يدرس الفنون الجميلة. ما إن أنهى دراسته في «دار المعلمين» في حلب، حتى اتجه إلى التعليم في الأرياف. زيارة عابرة إلى المتحف الوطني في دمشق، أيقظت افتتانه القديم باللون. في المتحف، وقف مبهوراً أمام لوحات فاتح المدرس، ولؤي كيالي، ونصير شورى، فقرر دراسة الفنون الجميلة.
لم يكن لديه قدرةٌ على شراء قوالب الحفر، فعمِل نحّاتاً، ثم اخترع تقنيات غرافيكية خاصة به. بالطبع كانت عناصر المأساة الفلسطينية حاضرة بقوة في أعماله. محفورات تحتشد بزخارف وتعاويذ ونباتات هي مزيج من ذاكرته الأولى ومفهومه للجمال الشعبي، والبيئة البدوية التي ينتسب إلى إحدى قبائلها. هناك ما يشبه الوشم يطبع سطوح مشغولاته. ينفي محمد الوهيبي البعد الفولكلوري لأعماله، ويقول: «لست فولكلورياً، ولا إيديولوجياً. أرسم ما أحسّ به من دون تخطيطات مسبقة».
سنجد في تلك الرسوم أشكالاً مستمدة من بيئته البدوية الأولى: صندوق العرس، دلاء القهوة المرّة، الثياب المطرّزة، ووجوه موشومة بالفقدان والأسى. كأن رائحة البراري المنهوبة لم تغادره قَطّ. مرةً أخرى، تحضر الأم في ذاكرة هذا الفنان، أو لعلها البوصلة التي وجهت حياته إلى اليوم «لا أذكر أن أمي قد ابتسمت مرةً في حياتها. كانت امرأة تراجيدية حقاً. امرأة تقرأ الطالع، فلا ترى سوى المآسي المؤجلة. إلى الآن أشمُّ رائحة سنابل وحطب ومواقد وعطور بريّة، هي في الواقع رائحة أمي». ويضيف مستدركاً: «هذه الرائحة موجودة في أعمالي رغماً عني، تهبّ من أمكنة قصيّة، فتفرض حضورها على مفردات لوحتي، مهما حاولت التحرر من سطوتها».
يحاول الوهيبي توصيف أحواله بكونه فناناً فلسطينياً، بأنه غير محكوم بجغرافية سايكس بيكو «أنا سليل تاريخ منطقة بلاد الشام عموماً، ولم أفكر لحظةً بفلسطينيتي الضيّقة، أرسم مدناً افتراضية، أو أمكنة مفتقدة، أمكنة مشتهاة عن بشر عبروا وتركوا آثارهم على الأرض». سننتبه إلى سطوع الأحمر القاني في لوحة أنجزها للتو، هو الذي لم يغامر طوال تجربته السابقة على مقاربة هذا اللون. يقول ضاحكاً: «في بيئتي البدوية الأولى، كان الأحمر لوناً محرّماً في البيوت، فهو نذير شؤم، لذلك كنت أخشى استعمال الأحمر في أعمالي، ربما بتأثير تلك التعاويذ. اليوم قررت أن أطيح سطوة هذه المفاهيم، وأعبّر عن شهوات قديمة، فقد كانت جدران بيتنا القديم رمادية وزرقاء معتمة. أرغب في أن أخرج من هذه الظلمة، وأتوق إلى لون شهواني لطالما كنت أخشاه».
الرماديات التي طبعت تجاربه القديمة تسللت إليها ألوان أخرى تدريجاً، مثل الأسود والأبيض والذهبي والأحمر «كنت أحاول حماية تعويذتي البدوية من الأذى». حتى الأبيض كان محرّماً. كأن الفرح ممنوع في حياة هذا الغرافيكي المحزون «الأبيض جواب لقرار» يقول. محاولات الانعتاق المتأخرة أتت بضغط من مزاج داخلي برفض الظلمة التي طال أمدها. يقول منفعلاً: «لقد نلت حصتي من الكآبة، وعشت في المقابر أكثر مما عشت في الشوارع المفتوحة على البهجة: ماذا أفعل أمام منظر لامرأة تتناول القهوة أمام قبر زوجها، وقد أحضرت فنجانه كي يشاركها بؤسها وذكرياتها في وحدتها؟».
غادر الوهيبي مخيم فلسطين أخيراً، إلى مرسمه الجديد عند سفح جبل قاسيون، وإذا به يتحوّل إلى مضافة بدوية تعجّ بالأصدقاء والعابرين. لعل هذا المكان المفتوح على الضوء قد ترك أثره على ألوان محمد الوهيبي، وفلسفته التي تتمحور حول معنى الدوران الصوفي، فالحياة دائرة، واللوحة دائرة، والخط دائرة، يمكن مشاهدتها من زوايا نظر مختلفة. يكفي أن تلتقط رمزاً حتى تدخل متاهة الخطوط والإشارات وبرازخ الضوء والعتمة. البدوي التائه وجد روحه الهائمة أخيراً، وها هو يقف عند عتبة فرح مباغت في متاهة كونية صاخبة.


5 تواريخ

1947
الولادة في طبريا (فلسطين)

1978
دراسة الفنون الجميلة «قسم الحفر»
في جامعة دمشق

1989
معرض خاص عن «المآتم الفلسطينية»
في «صالة ناجي العلي» في دمشق

1991
إقامة معرضه الفردي الأول
في صالة «أورنينا» في دمشق

2009
معرض متجوّل
في مدن سويسرية مختلفة