ضحى شمسنوعان من الإعلانات الموسمية تحل بحلول رمضان: إعلانات المطاعم، وجديدها التشديد على وجود أراكيل في قائمة المشاريب وشاشة عملاقة لمتابعة المسلسلات الرمضانية، وإعلانات «لله يا محسنين» التي تندرج تحتها دعايات الجمعيات الخيرية المتفرعة من كل مذهب (لأن الإحسان إلى فقراء الطائفة الأخرى سيسبب اشتراكات غير محمودة!)، إضافة بالطبع لمؤسسات رعاية الأيتام.
وعادة ما تكون إعلانات فئة «لله يا محسنين»، مملة، كل فكرتها قائمة على تنويعات تؤدي إلى غرض واحد هو: تبكيت ضمير المواطن المؤمن، وحثه عبر نوع من «عرض حال» الفقراء والأيتام، على التبرع إلى تلك المؤسسات التي تعتني بهم. شيء واحد كان يستحوذ على انتباهي في تلك الإعلانات: فهل من يظهرون فيها، إن كانت إعلانات طرقية أم تلفزيونية، مؤدين دور اليتيم أو الفقير، هم حقيقيون؟ أي أنهم مأخوذون من بين نزلاء دور العناية التي من المفترض أنها تهتم بهم؟ أم أنهم مجرد ممثلين، كما في كل الإعلانات الأخرى، يتقاضون أجراً عن ظهورهم ذاك عبر شركات الإعلانات؟
وبالطبع هناك فارق: فإذا كانوا ممثلين، فلا شك بأنهم سيسرّون حين يرون صورهم مرفوعة في الشوارع، ولو بدور فقير أو يتيم، وقد يتيح لهم ذلك التفاخر بأنهم «فوتوجينيك». ولكن، ماذا لو كان هؤلاء من اليتامى والفقراء الفعليين؟ من يحق له أن يعرضهم هكذا؟ وإن كانوا قد وافقوا على الظهور، فهل تسمح لهم أعمارهم وهم من القاصرين، بتبيان إن كان ظهورهم هذا في مصلحة مستقبلهم؟ وخصوصاً في بلد مثل لبنان أهله يتنفسون العنصرية ضد الضعفاء والمهمشين بكل أشكالهم؟ وما الفارق بين دور العناية التي تستجدي التبرع عبر عرضهم هكذا، وبين «شيخ النَوَر» كما يقال، الذي يلم أطفال الشوارع ويفلتهم للتسول بين السيارات، ثم يلمهم، في نهاية النهار في باص يؤوب بهم، كوم لحم يعمل مقابل مجرد الأكل والشرب والإيواء؟
هذا ما كنت منشغلة بالتفكير به وأنا أشاهد إعلانات موسم رمضان الحالي المنتشرة على الطرق من نافذة سرفيسي الصباحي إلى المكتب والمسائي وأنا عائدة إلى بيتي. إلا أن إعلاناً محدداً، هو إعلان «اقلب الصفحة» لدار الأيتام الإسلامية، لفت نظري. فلعبة المعلن تقوم على دعوة المحسن المفترض إلى التبرع بما يساعد على «قلب صفحة» حياة البؤس التي يعيشها الأيتام. هكذا، يصوّر إعلان «إقلب الصفحة» ما يشبه صفحة غلاف مجلة، وقد بدت عليه فتاة صغيرة، سمراء البشرة داكنتها، ودموعها تسيل على خدها، ومن خارج الكادر امتدت يد تقلب الصفحة التي ترتسم صورة الفتاة التعيسة فوقها، لتظهر الفتاة نفسها، على الصفحة التالية، ولكن بحلة مرتبة، ضاحكة السن سعيدة و..بيضاء البشرة!
وإن كنا نتفهم الفارق بين المعادلة البصرية التبسيطية: طفلة + دموع = فقيرة حزينة، وبين طفلة + ضحك + شعر مرتب = طفلة سعيدة، فما هو سبب تبييض بشرة الفتاة حين أصبحت سعيدة؟ هل هو مجرد «سايد إفكت»؟ أي تأثير جانبي لعلاج الفقر بالإحسان؟ أم أن كل تبرع يوزعون معه مستحضر «فير اند لافلي» الذي نراه على التلفزيون يقوم بـ«تخليص» الفتيات السمراوات من لون بشرتهن «الغامق» بالنسبة لمتطلبات السوق؟ وهو لون حسب ادعاء الإعلان يحول بينهن وبين إعجاب المجتمع بأسره الذي يبدأ بالالتفات إلى الفتيات «المبيضات» لدى مرورهن بمجرد أن أصبحت بشرتهن فاتحة، بعدما كان يتجاهلهن.
المصادفة أن إعلان تبييض البشرة هو أيضاً، كإعلان دار الأيتام، يقلب صفحات متتالية، هي بمثابة جلد وجه الفتاة، توضح كيف تحول لونها بالتدريج باستعمال الكريم، من الاسمرار الغامق إلى اللون الفاتح.
رحم الله مايكل جاكسون. لقد كره لونه الأسود لدرجة مرضية، أراد أن يقتلع لونه عن وجهه من جذوره، أن يخلع جلدته ولو بأظافره، وفعل: بيّض بشرته وأجرى عمليات تجميل شوهته لدرجة أنه أصبح أقرب إلى المسخ منه إلى ذلك الصبي الجميل في فرقة «جاكسون فايف»، الذي ينضح وجهه بسعادة الغناء للجمهور. منذ أسابيع توفي جاكسون، المحزن أكثر من خبر وفاة ملك البوب كما يقولون، ملاحظة أن لون بشرة أولاده ... طبيعية، أي سوداء، برغم كل ما فعله هو، فللجينات ذاكرة لا تقدر عليها لا المساحيق ولا عمليات التجميل.
من يعلمنا أن نحب أنفسنا بكل ألواننا؟ من يقلب صفحة التفكير العنصري الذي نذهب ضحيته كل يوم، والذي لا يجد الجمال إلا في وصفة جاهزة قوامها لون أبيض ذو مصدر كيميائي، وتعابير وجه سعيدة بسبب رخاء اقتصادي، حتى لو كان مصدره.. الإحسان؟