معتصم حمادة *لم يعد خافياً أنّ الإدارة الأميركية بصدد استنفار جهودها وضغوطها، لأجل التوصل إلى خطوة عملية في المفاوضات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، وأن الرئيس بوش لا يرغب في مغادرة البيت الأبيض قبل أن يسجل أنه حقق هذه الخطوة، وأنه أرسى أساساً لحل هذا الصراع. في هذا السياق، كانت قد جاءت دعوة بوش إلى مؤتمر أنابوليس، والقرار باستئناف المفاوضات. كما كانت قد جاءت وعوده بضرورة الوصول إلى حل ما قال إنه «دولة فلسطينية» قبل نهاية ولايته، كما جاءت الجولات المكوكية لوزيرة خارجيته كوندوليزا رايس.
أيضاً لهذا الهدف جاءت الدعوة الأميركية إلى لقاء ثلاثي في واشنطن أخيراً، لبحث المسار الفلسطيني ـــ الإسرائيلي. وما تسرّب من واشنطن يفيد بأن المطروح على جدول الأعمال أكثر من مشروع، سوف تعمل رايس على إنضاجها في جولتها الحالية إلى المنطقة. عندما خرج كل من تسيبي ليفني، وأحمد قريع، إلى واشنطن، لأجل اللقاء الثلاثي، كانت الحالتان الفلسطينية والإسرائيلية تعيشان، كل على حدة، وضعاً متداعياً.
فالفلسطينيون يعيشون تحت وطأة حالة انقسامية حادة على جميع المستويات، تنعكس سلباً على الأداء السياسي العام، وعلى دور المفاوض وقدرته على صوغ استراتيجية تفاوضية صلبة، وكذلك على قدرة المؤسسات والرأي العام على مساءلة هذا المفاوض.
هذا الوضع الفلسطيني الضعيف، وفّر للجانب الإسرائيلي الفرصة والأجواء المناسبة لزيادة تصلبه وتعنّته، ولسان حاله يقول: «لماذا نقدم تنازلات لجهة فلسطينية ضعيفة، ما دمنا قادرين على فرض شروطنا عليها ولا تقوى على مقاومة الضغط ولا على المعاكسة أو المشاكسة السياسية والتفاوضية؟».
أما الجانب الإسرائيلي بدوره فيشكو من ضعف حالته بشكل غير مسبوق، وداخل ائتلافه الحكومي أطراف (كحزب شاس) صاحبة مواقف متشددة من القضايا التفاوضية قد تصل إلى حد التهديد بفرط الائتلاف. من هنا جاءت تصريحات أولمرت في أنابوليس «لم ألتزم بشيء»، وكانت المناورات التفاوضية وسياسة كسب الوقت، بحيث ينتهي العام الحالي، وتنخرط الإدارة الأميركية الحالية في ملفات المعركة الرئاسية، ثم تتجمد الأوضاع التفاوضية أو تراوح مكانها، إلى أن يدخل الرئيس الجديد مكتبه البيضاوي، ويرسم له مستشاروه الوقت المناسب، بالتشاور مع تل أبيب، لفتح ملف المفاوضات على مسارها الفلسطيني. وإلى أن يتحقق هذا، تكون سلطات الاحتلال قد استكملت، إلى حد بعيد، تشييد جدار الفصل العنصري، وبنت، وخططت لبناء آلاف الشقق السكنية الاستيطانية في القدس ومحيطها وفي أرجاء الضفة الفلسطينية، في سياسة استكمال فرض الوقائع الميدانية، بتداعياتها السلبية على العملية التفاوضية ونتائجها المرتقبة. الإدارة الأميركية، لأسباب انتخابية، ذات صلة بدعم الجمهوري ماكاين، ولأسباب تتعلق بموقف بوش الابن، تطرح أحد المشروعين التاليين لرصد اللحظة التفاوضية الراهنة واستثمارها، بما يخدم الاتجاه الأميركي ـــ الإسرائيلي ومصالحه المشتركة.
المشروع الأول: أن يوقع الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي وثيقة ـــ اتفاقاً يرصدان فيها القضايا التي اتُّفق عليها، باعتبارها باتت منجزة ولا حاجة للعودة للتفاوض بشأنها. وبحيث يبدأ الطرفان في تنفيذ ما اتفق عليه، دون ربط ذلك بالوصول إلى اتفاق على القضايا الأخرى التي ما زالت موضع خلاف تفاوضي. أي تحويل التفاوض على قضايا الحل الدائم من مفاوضات على رزمة القضايا مجتمعة، ودفعة واحدة، لا يُنفّذ أي منها إلا بعد الاتفاق عليها كلها، إلى مفاوضات على قضايا متفرقة، لا رابط في ما بينها. مثل هذا المشروع، كما هو واضح، من شأنه أن يعيد المفاوض الفلسطيني إلى الفخ الإسرائيلي الذي كان يقدمه شارون حلاً بديلاً لمفاوضات الوضع الدائم، والذي يقوم على الاتفاق على ترتيبات انتقالية، بحيث لا يُنتقل من مرحلة إلى أخرى، إلا بعد أن يثبت الجانب الفلسطيني أنه نفذ، بالشروط المطلوبة، التزامات المرحلة السابقة. وهذا ما يفتح الباب لمفاوضات بعيدة المدى زمنياً، كما يفتح الباب لتحويل المرحلة الأولى من الترتيبات إلى المرحلة الختامية من خلال المماطلة في الاتفاق على مضمون المراحل اللاحقة، وشروطها وآليات تنفيذها.
المشروع الثاني: تتولى الإدارة الأميركية الحالية صياغة تقرير يلخّص ما توصل إليه الطرفان من توافقات على القضايا المدرجة على جدول أعمال المفاوضات، ويرصد في الوقت نفسه ما بقي من قضايا لم يُتّفق عليها حتى الآن، يرفع التقرير إلى الإدارة اللاحقة، لتستند إليه في رعايتها للمفاوضات. خطورة هذا الاقتراح، أنه أسال لعاب الطرف الفلسطيني المفاوض، بذريعة أنه يمثّل وثيقة أميركية تقيّد الجانب الإسرائيلي وتمنعه من العودة بالمفاوضات إلى نقطة الصفر. غير أنه غاب عن بال المفاوض الفلسطيني أن مثل هذا التقرير من شأنه أن يؤبّد اللحظة التفاوضية الراهنة، بتوازناتها المختلة لمصلحة الطرف الإسرائيلي، وكأنها لحظة دائمة، لا تتغير وإن تغيرت الظروف الفلسطينية الوطنية والإقليمية إلى الأمام. ويرى المختصون أن المشروعين الأميركيين لا يعدوان كونهما محاولة لضبط اللحظة الراهنة وإلقاء القبض عليها، وتثبيت المكاسب الإسرائيلية، وقطع الطريق على أية تصحيحات للمسار التفاوضي في وقت لاحق.
إن استجابة المفاوض الفلسطيني لأي من هذين المشروعين سيلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الوطنية، وهو أقرب إلى الكارثة الوطنية منه إلى أي شيء آخر.
في الوقت نفسه، سيكون لهذا الموقف التفاوضي تداعياته الفلسطينية الداخلية السلبية، فيتعمق الانقسام على قاعدة سياسية، وستصاب مكانة منظمة التحرير بالمزيد من الاهتراء والتهميش، وخاصة حين تبدو اللجنة التنفيذية مشلولة، وعاجزة عن لجم حركة المفاوض الفلسطيني.
إن المدخل لدرء هذا الخطر، هو في إخراج المرجعية التفاوضية من دائرتها الضيقة الثلاثية (محمود عباس، أحمد قريع، صائب عريقات) ووضع حدّ لسياسة احتكار القرار، وإعادة هذا القرار إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لتشرف على تنفيذه من خلال لجنة وطنية عليا، معنية بتوجيه الوفد الفلسطيني المفاوض ورسم الخطوط العريضة لمواقفه، ورسم الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها. ترفع تقاريرها إلى اللجنة التنفيذية، مجتمعة، بحيث يتكرّس مبدأ الشراكة السياسية في إدارة العملية التفاوضية.
* عضو اللجنة التنفيذية
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين