لا تجد ما يفسّر ظاهرة الليبيراليّين العرب أكثر من تناولهم المسألة العراقية. والطور الحالي لليبيراليّة العربيّة، خلافاً للطور الأوّل الذي وُلد من رحم الاستعمار الغربي وبرعايته، لا يمكنه أن يحيد عن توجّهات الإدارة الأميركية في تناوله المسألة العراقيّة

أسعد أبو خليل*
يركّز المفكّر المغربي، علي أومليل، في تحليله للّيبيراليّة العربيّة، على معضلة افتقارها إلى التأييد الشعبي. ويعزو ابتعادها عن الناس إلى نخبويّتها وإلى خطابها الاستعلائي، بالإضافة إلى غيابها عن معركة التحرّر من الاستعمار (إن لم نقل تعاونها مع الاستعمار). لكن أومليل كان يتحدّث عن الطور الأول في خطاب الليببراليّة العربيّة. أما الطور الثاني، فالأصح أن يُسمّى الصعود الجامح لليمين العربي المتدثّر، نفاقاً، برداء الليبيراليّة، وذلك من أجل: 1) التماهي مع خطاب الاستعمار الأميركي، و2) تسويغ شعارات ليبيراليّة من أجل قمع معارضة أنظمة الشخبوطيّة النفطيّة. والنخبويّة في خطاب الليبيراليّة العربية تتجلّى أكثر ما تتجلّى في وعظ الجماهير حتى في ما ليس لمصلحتها. وإذا كانت اللينينيّة قد وقعت في فخ النخبويّة الفاقعة في كتاب لينين «ما العمل؟»، وإن تضمّن كتابه اللاحق «الدولة والثورة» نواحي فوضويّة، فإنه كان يستعين بمفهوم الوعي الزائف، ولكن من أجل الترويج لما هو، بالمفهوم الماركسي ــــ اللينيني، في مصلحة الطبقة العاملة. أما في خطاب الليبيراليّة العربيّة، فهناك استعلائيّة مزدوجة. فالناس (الفقراء والجميع) مُطالبون بإهمال مصالحهم (ومصالحهنّ) وإيلاء الأولويّة لمصالح سلالات النفط. مستحيل أن تلقى المطالبة تجاوباً، ويكفي أن يشاهد الموقف الضعيف والمتهالك عندما يظهر الليبيراليون العرب على شاشات «الجزيرة» حيث يبدون مرتبكين ومراوغين.
يمكن أن نضيف إلى تحليل أومليل أن الطور الثاني في سيرة الليبيراليّة العربيّة يعاني إفلاساً سياسياً وأخلاقياً يفوق الإفلاس الذي أدّى بليبيراليّي عصر الاستعمار إلى التهميش والمنافي (الطوعيّة والقسريّة). بالإضافة إلى عوامل الاستعلاء والارتهان للاستعمار غير المستتر (كيف يمكن للاستعمار الأميركي في العراق أن يستتر بوجود 140 ألف جندي، فضلاً عن 160000 متعاقد؟)، فإن الليبيراليّة العربيّة ــــ اليمينيّة تعاني فقراً مدقعاً في الانسجام الأخلاقي. فعلي عبد الرازق كان، مثلاً، جدّ مخلص في مشروعه للإصلاح الديني، اتفقت معه أم اختلفت. أما «إصلاح» ليبيراليّي اليوم فهو مستقى من فتاوى ابن باز ومن خطاب يوحنّا فم...التنك. ما معنى مثلاً أن تستنكر راغدة درغام قمع المرأة في إيران (والمرأة في إيران تعاني جوْراً وقمعاً) في صحيفة سعودية (في جريدة «الحياة»)، مثلاً؟ وهل هناك قمع مؤسَّسي للمرأة حول العالم يفوق ذلك الذي يحصل في مملكة القهر؟ طبعاً، يُحتمل أن تكون درغام قد توصلت إلى استنتاج مفاده أن المساواة بين الجنسيْن تحققت بالفعل في السعودية.
ويمكن الاستعانة بحلقة من برنامج «بصراحة» لإيلي ناكوزي، الذي تولّى إدارة حملات إياد علاوي الانتخابية من محطة «العربية». لم يتسنَّ لناكوزي الاستعانة بحملات عبد الستار أبو ريشا (قدوة الليبيراليّة العربيّة وأملها). ففي مقابلة مع طارق الهاشمي (واحد من فريق دمى الاحتلال المتعدّد الطوائف)، عبّر ناكوزي عن ضيقه الشديد بإجابات الهاشمي الخجولة عن اتفاق شرعنة الاحتلال الأميركي وإطالته الى ما لا نهاية. وبّخه ناكوزي، وقال: إن أميركا أتت و«حرّرت» العراق وأعطت العراقيّين (العراقيّات عورات بنظر فقه آل سعود) الديموقراطيّة، وأضاف ناكوزي كلاماً (فارغاً من الناحية العلميّة) عن انعدام السيادة في عصر العولمة، وأنه حتى الولايات المتحدة لا تتمتّع بالسيادة. كانت العلوم السياسية تحتاج إلى تنظيرات إيلي ناكوزي ليكتمل عقدُها. أي إن ناكوزي أظهر تبرّماً بأدوات الاحتلال في العراق لأنهم لا يخدمون الاحتلال الأميركي بما فيه الكفاية. فالاعتراض على وحشيّة الاحتلال وطمعه يراه إعلام اليمين ــــ الليبيرالي العربي نكراناً للجميل. وهل ينكر محمد دحلان «جميل» الاحتلال الإسرائيلي؟ كما لم ينكر عبد الستار أبو ريشا «جميل» الاحتلال الأميركي.
والإعلام السعودي، المحتضن للّيبراليّة العربيّة الزائفة (وهي نَسَق غير مستتر لليمين المحافظ والوهابي) يتكيّف مع التغييرات في السياسة الأميركيّة نحو المسألة العراقيّة. وقد تنقّل تبجيل الإعلام السعودي برشاقة من أحمد الشلبي إلى إياد علاوي ثم إلى نوري المالكي في الأشهر الأخيرة. وعندما ضاقت الإدارة الأميركية ذرعاً بإدارة نوري المالكي في وكالة الاحتلال، عبّر الإعلام السعودي بانتظام عن هذا الضيق، وطغى الترويج لعبد الستار أبو ريشا، قدوة الليبيراليين العرب. والطريف أن الليبيراليّة العربيّة ترى أن أي تعبير عن الوحدة أو الاندماج بين العرب هو نتاج متخلّف، بينما هي تفضّل تجمعات عشائريّة وقبليّة. الليبيراليّة العربيّة تنتقد حماس من باب فكر التنوير، لكنها تروّج لعصابات محمد دحلان ولخطاب المفتي الجوزو كبديل متحضّر. (لم يصدر استنكار واحد من فريق «مثقفي» 14 آذار لخطاب الكراهية المذهبيّة الصادرة عن الجوزو).

الليبيراليّون العرب والمسألة العراقيّة

والإعلام السعودي زخر بمقالات طوال عن المعاهدة التي تهدف إلى شرعنة الاحتلال وإطالة أمده إلى ما لا نهاية. هنا، خرجت الليبيراليّة العربيّة عن الدور المرسوم. إذ إن الليبيرالية العربية تفضّل الاحتلال الأميركي أكثر من تفضيلها أدوات الاحتلال نفسها. وحازم الأمين (الذي كشف في تحقيق من طرابلس أخيراً أن حلفاء سوريا هم الذين يتقاتلون بين الطرفيْن، وأن لا وجود لميليشيا الحريري هناك)، مثلاً، عزا (في مقالة في جريدة الأمير خالد بن سلطان) نقدَه للانتقادات المتعاظمة للاتفاقيّة المهينة إلى «عراقيين». لم يسمِّ هؤلاء العراقيّين، مع أن الإعلام الأميركي كان صريحاً في تغطيته الانتقادات الصادرة عن أدوات الاحتلال الأميركي وأعوانه أنفسهم. هكذا، يصبح «العراقي» المجهول خيالاً متخيّلاً، يهدف إلى شرعنة الاحتلال وشرعنة التسويغ الليبيرالي العربي للاحتلال (هنا يظهر أن الطور الثاني لليبيرالية العربية أكثر سفوراً في تأييده الاستعمار من الطور الأول الذي كان يراوح بين الخجل والجهر، تبعاً للمرحلة).
والمعاهدة التي يشكو منها حتى أكثر المتعاونين ضراوةً مع الاحتلال الأميركي، بمن فيهم نوري المالكي وموفّق الربيعي، دون أن ننسى آية الله السيستاني (الذي، في فقهه، يُشرّع الاحتلال ويُحرّم لعبة الشطرنج)، تصبح في مقياس حازم الأمين مجرّد «نقل للعراق من الوصاية الدوليّة، عبر الوجود الأميركي فيه، إلى وصاية عراقية دستورية». أولاً، لاحظ (ولاحظي) أن الأمين يرى الاحتلال الأميركي مجرّد إفراز قانوني لـ«الوصاية الدوليّة». لم نكن نعرف أن الإدارة الأميركية التي شنّت حربَها ونشرت احتلالَها إنّما فعلت ذلك من أجل تكريس الوصاية الدولية. لكن الأمين لم يشرح لنا سببَ معارضة الأمم المتحدة، وحتى بعض حلفاء أميركا، للحرب على العراق، إذا كان القصد تكريس الوصاية الدولية. لعل العبارة تفسّر أماني فريق 14 آذار الذي ينتمي الكاتب إليه. والأماني الإيديولوجية، عندما تصطدم بالوقائع، تصارعُها وتلقيها أرضاً. ثانياً، كيف يمكن التوفيق بين وصاية عراقيّة دستوريّة ووجود الاحتلال مهما تستّر برداءات من التسميات والقرارات التي تتوالى من الأمم المتحدة بسرعة جري المياه بعد انتهاء الحرب الباردة؟ لكن الأمين لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل يعترض على الاعتراض العراقي الخجول الصادر عن حكومة الاحتلال، فهو يشكو من أن «المفاوض العراقي أنهك المفاوض الأميركي». يا للحنان! لماذا لا يقدّم الليبيراليّون العرب كرسياً للمحتلّ حتى لا تتعب قدماه من هذا الإنهاك الجائر؟ ولا يريد الأمين إلا راحة الاحتلال لما عاناه من تعب القتل والتدمير والسطو والاحتلال. طبعاً، يضيف الأمين الكلام المتكرّر عن مسؤوليّة المحور السوري ــــ الإيراني، فلولاه لما أنهك المفاوض العراقي مفاوضَ المحتلّ الرحيم. مثلما يتحمّل المحور السوري ــــ الإيراني سببَ معارضة فريق من اللبنانيين ومقاومتهم احتلال إسرائيل وعدوانيتها.
أما رؤية حازم صاغية (الكاتب في الجريدة نفسها التي يملكها الأمير السعودي عينه)، فهي لا تختلف. والأمين وصاغية متفقان في الترحّم على نوري السعيد، ويستشهد الواحد منهما بالآخر، كما يستشهد السنيورة بمحمود عباس. لكن الحنين إلى الاستعمار بات سمة سائدة في الإعلام والثقافة النفطيين، ومحطة «العربية» تعدّ برنامجاً «وثائقياً» عن الملك فاروق، وكأن الشاشة لم تشبع من مسلسلات الحنين إلى عهد فاروق. لكن الإعلام السعودي يركز على أن الملك لم يكن يحتسي الخمرة (مثلما كان هتلر لا يحتسي الخمرة ولا يأكل اللحوم، كما أنه كان يغدق هدايا الحلوى على أولاد غوبلز)، وكأن ذلك كاف لمحو آثامه وجرائمه. والاثنان يفعلان ما يفعله جميع كتّاب صحافة آل سعود. فهم يحاربون عبد الناصر بعد عقود من موته، لأن آل سعود لم ينسوا بعد الإذلال الذي لحق بهم في الحقبة الناصرية، عندما كان تأثير عبد الناصر يصل إلى داخل العائلة المالكة والقوات المسلحة. لم يكن لآل سعود إعلامهم القوي (باستثناء جريدة «الحياة» آنذاك، يا للمصادفة!) فهم يريدون نبش عبد الناصر لتعذيبه والتمثيل بجثته عقاباً له على ما فعله بهم. صاغية يسخر من الناصرية والأمين يسخر من «القوموية»، لأن العشائريّة والقبليّة (اللتين يؤيدانهما في العراق) هي صنف أرقى في التنظيم البشري.
وصاغية يريد أن يحيي ذكرى نوري السعيد، وحسناً فعل. إذ إن الليبيراليّة باتت صريحة (وهو أصرح من غيره من الليبراليّين العرب، وخصوصاً عندما ظهر على شاشة «الليببراليّة» الحريريّة ليطري أنور السادات ويدعو إلى التمثّل به في إنهاء أية مقاومة أو معارضة للاحتلالات والعدوانات الإسرائيليّة المستمرّة دون توقّف منذ احتلال فلسطين العزيزة عام 1948). طبعاً، يحاول صاغية في عملية مصطنعة المزاوجة بين نوري السعيد وشعاراته الليبيراليّة (التي تتوقّف عند حدود مملكة القهر السعوديّة وكل حلفائها في المنطقة، وإن كان ليبيرالياً جدّاً في حديثه عن سوريا وإيران وقطر وليبيا، وعن أية دولة تخاصم مملكة الليبيراليّة الوهابيّة. أية لعبة هي تلك؟). وكلام صاغية عن نوري السعيد يهدف صراحة إلى شرعنة أدوات الاحتلالات الحاليّة في العالم العربي. فهو يقارن بين نوري السعيد ونوري المالكي، ويفتي أن الاثنين تحالفا «تكتيكيّاً» مع الاحتلال (أو مع أميركا على الأصح، لأن صاغية لا يعترف بوجود احتلال في العراق، إذ إن الليبيراليّين العرب يعدّون عشرات الآلاف من الجنود والمتعاقدين الأميركيّين سيّاحاً وزوّاراً مدجّجين بالأسلحة، لا أكثر). أي إن التعاون مع الاحتلال والارتهان له ليسا إلا تحالفاً «تكتيكياً». ويمكن قياساً القول إن سعد حداد وأنطوان لحد ومحمد دحلان تحالفوا «تكتيكيّاً» فقط مع الاحتلال الإسرائيلي، فاقتضى التوضيح. طبعاً، رأى صاغية المالكي «رجل دولة» مثلما يرى فؤاد السنيورة «رجل دولة»، ومثلما يرى الملك الأردني «رجل دولة»، ومثلما يرى محمود عباس «رجل دولة». ولو نَصّب الاحتلال الأميركي شعبان عبد الرحيم (الذي يحب عمرو موسى) رئيساً لدولة عربية لرآه صاغية تلقائياً «رجل دولة». لكن هل يسرّ نوري المالكي أن يُقارَن بنوري السعيد إذا تذكّرنا فظائع السحل؟ لا نظنّ أن صاغية يتمنى مقارنة مصير المالكي بمصير السعيد أو إسقاط مصير الثاني على مصير الأول.
التناغم بين مقالة الأمين وصاغية واضح للعيان. والأمر لا يحتاج إلى تنسيق ولا إلى أوامر أميريّة. أوضح لي كاتب سابق في «الحياة» أن بعض الصحافة السعودية لا تحتاج إلى رسم الحدود ولطبع قائمة بالممنوعات، فهذه تُتدوال بالتواتر وشفهيّاً، وإذا شطّ كاتبٌ ما، صَوَّبه المحرّر. وهل يرى دعاة ابن باز إلا الصّواب؟ أما ما صدر من انتقادات للاتفاق فالاثنان يجمعان على رفضِها في المطلق والهزء بها. الأمين يصف الانتقادات بـ«القوموية»، والقوميّة سبّة عند هؤلاء، إلا إذا انحصرت في نطاق الكيان الأصغر، أو العشيرة أو الناحية، أو «الحِتّة» كما يسمّونها في مصر. ومجالس الصحوة تبني، تحت قيادة أحمد أبو ريشا (عميد الليبيراليّين العرب الوهابيّين)، الدولة المدنيّة التي يريدها السنيورة في لبنان. أما صاغية فهو لا يرى أن انتقادات الاتفاقية تستحق الردّ، إذ إنه يكتفي بتكرار كلمة «الصِبية» بوصفها شتيمة (لماذا يكون صغر السن أو الجنس تعييراً في ذاته؟ هذا من نتاج العقلية البطريركيّة ــــ القبليّة، لا ريب) لكل من يجرؤ على رفض شرعنة الاحتلال (الذي ليس احتلالاً في نظرهم، إذ إنه يحتلّ وكأنه لا يحتلّ، مثلما كانت المغنيّة وحيد في وصف ابن الرومي تغنّي وكأنها لا تغنّي). وسخر صاغية من الذين يسوّقون تهمة سرقة النفط ضد الاحتلال الأميركي، مع أن التهمة ترد دوريّاً في مناقشات مجلسيْ النوّاب والشيوخ... الأميركيّيْن.
ويحسم صاغية الجدل بشأن المعاهدة بسرعة. إنها «لمصلحة العراق». وكل من يعارض هذا التقويم ينتمي إلى «صبية» المحور السوري ــــ الإيراني القومجي (نلاحظ أن الليبيراليين الوهابيين يجمعون في إدانتهم على الشكوى من المخطّط الفارسي ومن المخطّط القومجي العربي في آن واحد. الموضوع يحتاج منهم إلى شرح: كيف يتّفق القومجيون العرب مع القومجيين الفرس؟ ألا تتعارض القومجية الأولى مع الثانية؟ نريد حلاًّ، كما طالبت سعاد حسني في واحد من أفلامها). ثم يعدّد صاغية الأخطار التي تجابه العراق، ويفوته أي ذكر لأميركا أو إسرائيل في هذا التعداد العلمي. قل إنها صدفة، أو «صاءبت». ليس في الأمر نيّة خبيثة على الإطلاق. والتطابق في الرؤى بين الليبيرالية العربية وأمراء الوهابية هو محض صدفة، والذي يحاول أن يوحي بوجود علاقة نفعية مالية ينتمي (أو تنتمي) هو أيضاً إلى «صبية» المحور السوري ــــ الإيراني. ينتظر المرء مصالحة سورية ــــ سعودية ليكتشف فجأة غياب النقد الليبيرالي للنظام في سوريا، الذي لم يتعرض لنقد واحد في أفظع مراحله، عندما كان النظام السوري والسعودي يستمتعان بعلاقة شهور من العسل والتمر.
وهناك نقاط لوازم في تناول الليبيراليّة العربيّة للموضوع العراقي. فهم بالإضافة إلى إمكان نقدها المشروع الأميركي من منظار جون بولتون (أي إن الولايات المتحدة لم تشنّ حروباً كافية. وهكذا علّل عصام خفاجي استقالته من أجهزة إعانة الاحتلال الأميركي عندما كتب أن هناك في الإدارة الأميركية من يعطّل الرؤية الرشيدة لبول وولفويتز، أمل الليبيراليّة العربيّة، والضيف الجديد في السفارة اللبنانيّة في واشنطن)، تعارض الانتقادات الأميركيّة للحروب الأميركيّة. لا ندري إذا كان صاغية يعزوها هي الأخرى إلى «صبية» المحور السوري ــــ الإيراني.
وهناك طبعاً الإعجاب الفائق بالتجربة (والقوميّة) الكرديّة. وبصرف النظر عن حقيقة المعاناة الكرديّة في العالم العربي وفي إيران وتركيا، وبصرف النظر عن الحقوق المهضومة للشعب الكردي، لا نفهم لماذا يرى معارضو القوميّة (أو القومجية كما يسمّونها) العربيّة القوميّة الكرديّة فضيلة؟ ثم كيف يوفّق هؤلاء الليبيراليّون بين شعاراتهم الليبيراليّة وحقيقة التسلّط وقمع الآراء في الإقليم الكردي، بالإضافة إلى الطابع العشائري والعائلي الذي يحكم حكم العشيرتيْن، أو كونفيدرالية العائلتيْن (فالوزير هو الصهر، ورئيس الوزراء المحلي هو قريب، والسفير هو الابن النجيب، وهلمّ جرّا). وعندما يتعرّض كتّاب أكراد للسجن والاضطهاد من جانب سلطة الطالباني ــــ بارزاني، لا يُرفع الصوت اعتراضاً من الذين يدّعون مناصرة الحق الكردي، أما فخري كريم فهو مشغول بملاحقة من يخالف شروط «النقد المُباح». والجميع في العالم العربي، يساراً ويميناً، مقصّر في حق الأكراد، لكن المناصرة الحقيقيّة لحق الأكراد تتطلب رعاية واهتماماً بشؤونهم بصرف النظر عن هوية مضطهديهم.
المسألة العراقية باتت تعرّي مواقف جميع الأطراف. هزال الواقع العراقي لا ينسجم مع خيالات بوش عن الديموقراطية ومع خيالات الليبراليّبين العرب الذين يودّون لو أن بعض الوقائع تُقتطع من الإعلام: مثل الحروب الأهلية والتهجير المذهبي والفساد المستشري، ونوري المالكي («رجل الدولة») يوزّع الدولارات في شوارع بغداد (على ما ورد في تقارير الصحافة الغربية هذا الأسبوع) إيذاناً ببدء حملته الانتخابية. ومسألة العنف وتحديد خواصه هي مكمن المشكلة للأطراف السياسيين في العالم العربي: الليبيراليّة تودّ أن تصوّر كل عمليّات العنف في العراق على أساس أنها إرهابيّة من صنع القاعدة، بينما دراسات روبرت بيب تظهر أن نحو 80% من العمليات العنفيّة اليوميّة موجّهة ضد قوّات الاحتلال ومن عاونها من جيش الاحتلال ذي البزة العسكريّة العراقيّة. وفي المقابل، يحاول قوميّو صدام ومن لفّ لفّهم الحديث عن مقاومة عراقيّة دون إحداث تصنيفات تميز بين إرهاب القاعدة (الذي لا يمكن أن يندرج تحت بند المقاومة) ومقاومة الاحتلال. وقد حاول حسن نصر الله في خطاب أخير معالجة مسألة موقف الحزب من القضية العراقية، إلا أنه زادها إشكالية. فقد أشار إلى فريق حكومة الاحتلال بخيار «المسيرة السياسية». هذا التلطيف للموقف من دمى الاحتلال وأدواته، والصمت المطبق عن التخاذل المُعيب للسيستاني، لا ينسجم مع مبدأ مقاومة الاحتلالات مهما تكن. وهذا اللين في الحكم على مواقف المالكي والسيستاني والمجلس الأعلى لا يمكن إلا أن يُعزّز اتهامات خصوم حزب الله له بالتعاضد المذهبي، مع أن خصوم حزب الله غارقون حتى آذانهم في الحروب الطائفيّة والمذهبيّة.
لكن الليبيرالية العربية واقعة في مأزق تاريخي، يعيد في جانب منه تجربة الطور الأول من الليبيراليّة العربية. ويظهر هذا المأزق أكثر ما يظهر في موقف الليبيراليّين من إسرائيل. حسن منيمنة (يساري سابق يكتب في جريدة الأمير خالد بن سلطان)، يدعو العرب إلى نسيان العداء «مع إخوة في الإنسانية» ــــ كذا ــــ في إسرائيل. ويؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي حرص على تجنّب إيذاء المدنيّين في لبنان في آخر سنوات احتلاله، على ما قال، كما أنه استنكر خطاب الكراهية (ولم يفِدنا منيمنة عن نظرته لخطاب الكراهية الفائق في الإعلام السعودي الذي لا يوفّر لا يهودياً ولا مسلماً ولا مسيحياً). هذا هو واقع الليبيرالية العربية اليوم. فهي واعية لبعدها عن الرأي العام، تقامر بمصير الأوطان عبر الرّهان على شرّين: شر الأنظمة التسلّطيّة المنضوية في المحور السعودي، وشرّ الاحتلالات الأجنبيّة الراعية لها. لكن ماذا سيحلّ بهذا الرهان إذا تعرّض طرف من الشرّين للاهتزاز، أو للهزيمة الشنيعة؟ ألهذا يظهر الارتباك في صفوف فريق الليبيراليّة الوهابيّة الذين يتمنّون عمراً مديداً لعهد بوش؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)