نقولا ناصيف
انقسم الرأي السياسي اللبناني حيال وصول المدمرةالأميركية «يو أس أس كول» إلى قبالة المياه الإقليمية اللبنانية، من غير أن تدخلها. أربكت قوى 14 آذار، واستفزت المعارضة. إلا أنها لم تعْدُ كونها مفاجأة غامضة لم تشر إلى أهداف قريبة توخّتها. بيد أن تقويم مصادر دبلوماسية غربية واسعة الاطلاع حيال ما حصل في الساعات المنصرمة، وردود الفعل عليها، بدا مختلفاً تماماً عن وجهتي النظر اللبنانية. وعزت تقويمها هذا إلى ملاحظات منها:
ــــ أن المدمرة الأميركية لا تقف تماماً قبالة لبنان. بل الأصح إنها تكاد تكون، حيث هي في المياه الدولية، على مسافة واحدة تقريباً من ثلاث دول تدخل في نطاق مهمة المدمرة الأميركية، وهي دول لبنان وسوريا وإسرائيل التي تختصر عدم الاستقرار الإقليمي في المنطقة تبعاً للوظيفة التي برّرت وصول المدمرة الأميركية إلى هذا الجزء من شرق المتوسط. وعدم الاستقرار هذا، وفق المصادر الدبلوماسية نفسها، ذو طابع أمني بين إسرائيل وحزب الله، بمقدار طابعه الأمني والسياسي بين سوريا ولبنان بحكم تداخل النزاع بينهما كدولتين من جهة، وتأثر فريق أساسي من اللبنانيين بوجهة النظر السورية في توجيه النزاع الداخلي في هذا البلد. والأصح أيضاً أن المدمرة الأميركية تقف على مسافة متساوية من بيروت واللاذقية في آن معاً.
ــــ إن قرار إرسال المدمرة إلى شرق المتوسط ليس ابن ساعته. وهو ثمرة تقاطع حوادث عدة عبر بها لبنان في الأسابيع الأخيرة، ضاعفت من قلق الإدارة الأميركية، سواء من الوضع في لبنان، أو بإزاء دعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في ظلّ المأزق السياسي بين الموالاة والمعارضة. بعض دوافع إرسال المدمرة إلى هذا المكان على صلة بالانفجار الذي استهدف في 15 كانون الثاني الفائت موكباً للسفارة الأميركية في بيروت في الكرنتينا، وأوقع قتيلين وعدداً من الجرحى، والبعض الآخر على صلة بالتهديدات العالية النبرة المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل على أثر اغتيال عماد مغنية في 13 شباط المنصرم. والبعض الثالث ــــ ولا تقلل المصادر الدبلوماسية الغربية الواسعة الاطلاع من أهميته ــــ على صلة بإمكان إجلاء رعايا أميركيين من لبنان إذا حتّمت تطورات غير محسوبة إجراءً كهذا، يدخل، في الغالب، في صلب أولويات الإدارة الأميركية لناحية حماية رعاياها المقيمين في لبنان. ومع أن لا خطط قريبة لمثل هذا الإجلاء، إلا أن وجود المدمرة الأميركية مرتبط بدوره بمسار الحوادث والتطورات في المرحلة المقبلة. وفي أي حال، لم تأت المدمرة الأميركية من أجل لبنان فحسب.
ــــ حُمّل وصول المدمرة أكثر ما ينبغي أن يحمل. وصولها إلى مسافة قريبة من المياه الإقليمية هو رسالة في ذاتها. إلا أنها ليست في مهمة طارئة وعاجلة، ولا تنطوي بالضرورة على تهديد فوري ومباشر. وبحسب المصادر الدبلوماسية الغربية، عبّرت الرسالة عن نفسها بأنها تتوخى الاستقرار الإقليمي في المنطقة، كإشارة ذات مغزى إلى الدول العاملة على تقويض هذا الاستقرار. وفي واقع الحال، تقول المصادر الدبلوماسية نفسها، إن واشنطن لا تشتبه بالدول المعنية برسالتها هذه، بل هي توجّه إليها أصابع الاتهام، وتشير إلى عزمها على تشديد العقوبات عليها، وإلى وضع حدّ لتدخّلها في شؤون جيرانها.
إلا أن فريقي الموالاة والمعارضة تلقّفا خبر وصول المدمرة «يو أس أس كول»، كل على طريقته وبلهجته، على نحو متناقض، شأن كل ملف سياسي آخر. لكن المفاجأة الأميركية أدت أيضاً إلى نتائج:
1 ــــ رغم أن بعض الموالاة تحمّس في الصباح الباكر، والبعض الآخر تحفّظ بعد ساعات، والبعض الثالث تنصّل، فإن وصول المدمرة أربك قوى 14 آذار في التوقيت غير المناسب لمجيئها، وغير المفضي بالضرورة إلى تعديل وشيك في توازن القوى المحلي والإقليمي. وقد لا تكون هذه مهمتها. إلا أن هذا الوصول أشاع انطباعاً بدخول أميركي مجدّداً على خط الصراع الداخلي في الخلاف الناشب بين الموالاة والمعارضة، والإيحاء بأن المدمرة عصا تلوّح بها واشنطن لدمشق كي تسهّل الحل اللبناني ويُنتخب رئيس جديد للجمهورية. والواضح أن مفاجأة كهذه يغتبط لها أفرقاء كثيرون في قوى 14 آذار ضمناً، إلا أنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن الترحيب بها علناً أو تبنّيها، أو في أبسط الأحوال التصرّف كأنها تمكّنهم من أوراق تفاوض جديدة وقوية في الحوار المتعثّر مع المعارضة من خلال الضغط غير المباشر على سوريا.
بل تبدو هذه الخطوة، في توقيتها وظروفها السياسية اللبنانية على الأقل، أشبه بالموقف المفاجأة ــــ بدوره ــــ الذي كان قد أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش في كانون الأول الفائت، عندما حضّ الأكثرية النيابية على انتخاب رئيس جديد للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً من أجل حسم المسألة الدستورية وتغليب كفة قوى 14 آذار على معارضيها، فيما كانت هذه القوى قد تخلّت عنه قبل أسابيع بعدما وجدت نفسها عاجزة عن اللجوء إليه بسبب التريث الاميركي في دعمه. فإذا ببضعة مواقف رسمية وسياسية من أفرقاء الموالاة تتجاوز موقف بوش وتدعو إلى إهماله، وتتمسّك بانتخاب رئيس توافقي.
2 ــــ على طرف نقيض من الموالاة، استفزّ وصول المدمرة الأميركية المعارضة، وخصوصاً حزب الله، مع معرفتها مسبقاً بحدود تأثير دور المدمرة في توازن القوى الداخلي. ولأنها ليست موجهة ضد هذا التوازن وغير قادرة على التأثير المباشر فيه، وجدت المعارضة في المفاجأة عرض عضلات ليس إلا تحرج الموالاة أكثر مما تخوّف خصومها. ورغم وجود الجيش الأميركي في العراق على حدود سوريا، لم يبادر إلى تهديدها بحشود تهدّد نظامها، كذلك لم يلجأ عندما حصل تمرّد كردي في شمال سوريا عام 2003 إلى دعم التمرّد بما يتيح إحداث اختراق أساسي في حكم الرئيس بشار الأسد يقتطع جزءاً من الحدود الشمالية بغية إرباكه. تُرك للنظام حسم التمرّد على طريقته، وكان أن أطفأه حينذاك رئيس الأمن السياسي اللواء غازي كنعان على رأس قوة من 15000 جندي. والواضح تبعاً لذلك أن واشنطن لا تستعجل تهديد نظام الأسد، لكن من غير أن تنجح في منعه من التدخّل في الشؤون اللبنانية. وهو التوازن الفعلي الذي يعوّل عليه معظم أركان المعارضة.