strong>غسان سعود
في عكار، يأخذ الصراع السياسي طابعاً خدماتياً. فانتقاد النواب غالباً ما يبدأ بالتذمر من غيابهم عن ملاحقة هموم المواطنين، وعدم التزامهم تنفيذ الوعود التي قطعوها. وقد نجح البعض في تأليب الرأي العام العكاري خلال الشهور القليلة الماضية على أداء النواب، وتراجع تقديمات تيار المستقبل، حتى بدا أن هذا التيار يخسر من رصيده الشعبي. وجاءت استقالة النائب مصطفى علي حسين من كتلة نواب المستقبل، ومن التيار نفسه، لتزيد من صحة كلام المؤكدين لمعاناة التيار مشاكل داخلية ستحول دون استعادته نشاطه ودوره.
لكن سرعان ما اتضح عند التنقل بين البلدات العكارية، في هذه الأيام، أن كبوة التيار كانت ظرفية، إذ استعاد الناس فجأة حماستهم لـ«المستقبل» ودفاعهم الشرس عن نوابهم ومسؤولي هذا التيار الأقوى في عكار.
وفي التفاصيل، يحمّل بعض المتابعين المحايدين للحياة السياسية والاجتماعية في عكار، المعارضة المسؤولية الرئيسية عن عدم استثمار «تجميد النشاط «المستقبلي» في هذه المنطقة لبضعة أشهر». فالنواب السابقون، المشغولون بخلافاتهم الشخصية، حافظوا على رتابة حركتهم، مكتفين بزيارات التعزية والتهنئة في المناسبات الاجتماعية، والتصريحات السياسية المتوعدة دوماً بـ«انتصار الأمة العربية» دون تقديم أية مشاريع جديّة يكفّرون بها عن التقصير المتمادي حيال المنطقة طوال العقود الماضية، فضلاً عن تجنّب هؤلاء النواب التعرّض المباشر لأداء نواب «المستقبل» السيِّئ لعدم «إثارة اضطرابات سنيّة ـــــ سنيّة». ويرى المتابعون في حركة هؤلاء النواب، انتظاراً طفولياً لعودة الوصيّ السوري بلوائحه التي لا توصل إلى المجلس النيابي إلا من يتمتع بمواصفاتهم.
أما التيار الوطني الحر (القوة الشعبية الثانية في عكار بعد تيار المستقبل) فقد نافس تيار المستقبل في الغياب، وكسب هذه الجولة! إذ، وخلافاً لحركته الحيوية قبل عامين، لم ينظّم نشاطاً واحداً خلال أكثر من ستة أشهر، وتوقفت اجتماعات لجان القرى، وكل قيادي فيه «يغني في عكار على ليلاه»، بحسب الناشطين الذين يأسفون للانعكاس السلبي الكبير لهذه الفوضى التنظيمية على القواعد، التي لا تجد من يكترث لهمومها ويسعى جدياً لتأمين الحد الأدنى من متطلباتها الكثيرة.
ويضاف إلى النواب السابقين والوطني الحر، يأس قرابة أربعين رئيس مجلس بلدي معارضين (من أصل 156 مجلساً بلدياً في عكار) جالوا عبثاً على قادة المعارضة بغية الحصول على دعم مالي أو إنمائي يؤمّنه نواب المعارضة لدعم صمودهم في وجه الحصار «المستقبلي» المطبق عليهم. لكنهم عادوا خائبين، بعدما أتحفهم قادة المعارضة بالخطابات، ولم يقدموا لهم أية حلول لمشاكلهم الإنمائية. وبدوره، يحافظ مكتب نائب رئيس مجلس الوزراء السابق، عصام فارس، على سياسة توزيع المساعدات المالية هنا وهناك دون استراتيجية عمل واضحة أو تنسيق جديّ مع قوى المعارضة.
في المقابل، أعاد تيار المستقبل بهدوء تنظيم نفسه في هذه المنطقة التي شهدت أول تنظيم معلن له في عام 1998. علماً بأن السوريين، بحسب رواية المستقبل اليوم، منعوا الرئيس الحريري من تسمية ولو مرشح واحد لتياره عن مقاعد عكار السبعة. فيما احتكر المستقبل التمثيل النيابي عام 2005، بفوز أربعة من أعضاء مجلسه السياسي (مصطفى هاشم، عزام الدندشي، محمود المراد، مصطفى علي حسين)، واثنين انتسبا لاحقاً إلى التيار (هادي حبيش ورياض رحال)، إضافة إلى النائب، الصديق لتيار المستقبل (وقد كان طوال أكثر من عشر سنوات صديقاً للتيار الوطني الحر)، عبدالله حنّا.
ويعزو هاشم، رئيس كتلة المستقبل في عكار، سبب تراجع حضور التيار والتململ الشعبي، إلى قرار قيادة المستقبل الفصل بين الأعمال التنفيذية (تقديم المساعدات وتأليف أعضاء اللجان وتنسيب المؤيدين) والمهمات السياسية والانتخابية. حيث نص التنظيم الجديد على وجود مجموعتين تتناغمان في العمل، واحدة تتعاطى السياسة وأخرى تنفيذية تلاحق شؤون المواطنين، من منطلق أن «النائب، بحكم موقعه التشريعي، لا يستطيع إعطاء الوقت المطلوب للاهتمام بقضايا حزبه والتفاصيل الشعبيّة». وقد استغرقت هذه «القفزة النوعية في العمل السياسي والخدماتي فترة، ظنَّ البعض أنها كافية للنظر إلى «المستقبل» في عكار كقوة من الماضي».
وهكذا، أُعيد تنظيم التيار، عُيّن منسقون جدد، وزُيِّتت الماكينة الخدماتية، كما أُنشئت لجنة جديدة هدفها استيعاب الراغبين بالانضمام إلى التيار، واستثمار حماستهم مباشرة لنفض الغبار عن الجسد الحريري المسترخي منذ إعلان الفوز الساحق (بأكثر من أربعين ألف صوت) في الانتخابات النيابية الأخيرة. وبموازاة هذه «الانتفاضة»، سارع رئيس كتلة المستقبل سعد الحريري إلى التبرع لمكتب عكار بخمسة ملايين دولار، وُزّعت (تحت إشراف مكتب الهندسة في تيار المستقبل) على مشاريع إنمائية في البلدات العكاريّة، بحسب عدد السكان في كل قرية، بغض النظر عن الانتماءات السياسية لأهل البلدات أو لرؤساء المجالس البلدية.
وإضافة إلى هذا المشروع الذي استغل بطريقة ما نقمة رؤساء المجالس البلدية، بسبب الوعود الفارغة لقادة المعارضة، جرى تفعيل خدمات المكتب الصحي، الذي بات يسدد الـ15 % التي لا تدفعها وزارة الصحة من الفاتورة الصحيّة. ويؤكد هاشم أن ثمة تنسيقاً يومياً بين مكتب التيار في عكار والقيادة المركزية في بيروت والنواب للتواصل مع الوزارات المعنية ببعض الخدمات، مشيداً بتعلّمهم من أخطائهم، ونجاحهم في تقديم قفزة خدماتيّة نوعية خلال بضعة أشهر، رغم عدم اكتمال اللجان الجديدة. ويكشف هاشم عن بدء مجلس الإنماء والإعمار قريباً بإنشاء محطة لتوليد الكهرباء في منطقة العيون، تؤمّن حاجات منطقتي الجومة والقيطع، إضافة إلى إعادة تصنيف طرقات عكار (413 كلم مصنّفة فقط). كما ارتفعت موازنة الأشغال العامة من 6،5 % عام 2004 إلى 13% عام 2006، بحسب هاشم، الذي يعدد أسماء أكثر من عشر ثانويات ومهنيات افتتحت خلال العامين المنصرمين في عكار بضغط مباشر من نواب المنطقة.
أمام هذه «الطفرة الخدماتية» التي تثمر التفافاً شعبياً كبيراً حول «المستقبل»، يُستدل عليه من لافتات يرفعها بعض أبرز الخصوم السابقين لهذا التيار تشيد بدور رئيسه الإنمائي، وصور للرئيس الحريري فوق منازل قيل عن ساكنيها إنهم آخر من يقدم على أمر كهذا، لا يجد قادة المعارضة في عكار سبيلاً لتبرير فشلهم إلا القول إن «المستقبل يستغل ظروف الناس البائسة، ويشتري الفقراء». تهمة يجدها عكاريون كثر مقبولة، بعدما خبروا أن الموقف السياسي الاستعراضي لا يطعم خبزاً ومن «جرّب المجرّب عقله مخرّب».