strong>بيسان طي
• كذب المتنبّئون... الفتنة لن تمرّ من هنا

كلام كثير حول مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. قيل إن «الفتنة» المقبلة ستشتعل فيه لتحرق بعض لبنان. خرج المخيم من دفاتر النسيان وصار محور حديث السياسيين، وقبل أن يثير اهتمامهم كان بعض «المحللين» قد سبقوهم إلى تناوله

العيون شاخصة نحو مخيم برج البراجنة منذ انطلقت موجة التصريحات عن خطر يكمن فيه ويتهدد لبنان. كلام السياسيين يثير الرعب، يُشعر المرء أن في هذا المخيم أوكاراً تُحاك فيها المؤامرات للانقضاض على «الاستقرار» في البلاد.
فجأة اختفى الحديث عن الناعمة ـــــ حيث مركز القيادة العامة لجبهة تحرير فلسطين ـــــ ليصير مخيم البرج بديلاً منها في اهتمامات سياسيين لبنانيين معظمهم من الموالاة. كيف تغيّرت المصطلحات؟ لماذا طُوي الحديث عن الناعمة ليحل حديث التخويف عن البرج؟ سؤال لا يكترث له أهل المخيم الملاصق لضاحية بيروت الجنوبية، فهم غارقون في فقرهم يبحثون عن لقمة عيش «صعبة المنال».
المخيم هادئ إذاً، والأجواء فيه مختلفة عما كان سائداً في بلدة الناعمة ومحيط مقر القيادة العامة.
حين انطلقت معركة نهر البارد، وضّب كثيرون في الناعمة أمتعتهم وتركوا منازلهم. سطّر الخوف قوانينه، ارتفعت الستائر الترابية قرب حاجز للجيش، وصار الداخل إلى المنطقة ينتظر بين لحظة وأخرى أن يطل عليه أبناء القوى الموالية المسيطرة ليسألوه عن سبب زيارته، وليعبّروا أمامه عن امتعاضهم منه إذا كان من المعارضة. في تلك المرحلة كان يمكن أن نسمع أحد «القبضايات» هناك يتحدث عن «الأعداء» الذين يمكن محوهم خلال دقائق، وهؤلاء الأعداء هم «ميليشيا القيادة العامة»، وكان من الممكن أن يشطح رفيق ذلك القبضاي ويصف الفلسطينيين كلهم بالخطر على لبنان.
أما السكان الآخرون، وتحديداً أولئك الذين لم يتركوا منازلهم، فقد كانوا في حاجة إلى من يطمئنهم إلى أن حياتهم ليست في خطر، فقد كانوا متيقنين من أن معركة الناعمة «ستفتح بعد أن تنتهي معركة البارد»، ولم تسكن هذا الخوف ادعاءات «القبضايات» عن السلاح المخزّن في البيوت «للاستعمال وقت الحاجة».
انسحبت الناعمة من «التداول» وحلّ البرج محلّها، لكن ذلك لم ينقل أجواء التوتر ذاته سواء داخل المخيم أو في الشوارع والأسواق المحيطة به.
تحكي خلود الحسيني عن فزع أصاب الهاربين من نهر البارد إلى برج البراجنة مع تكاثر الحكي عن الخلاف الذي نشب قبل أيام بين أفراد من عائلتين في المخيم. قُدمت الحادثة في وسائل إعلام كبداية فتنة بين فصائل مختلفة. الخوف سرى قليلاً مع الكلام الذي أطلقه النائب وليد جنبلاط عن المخيم، لكن حالة الذعر لم تطل.
في المخيم مساء يختفي الصغار والمراهقون من الأزقّة، يعتقد المرء أنّ الخوف مسيطر، لكنه مع السؤال يتنبّه إلى «البرد والخمول لا أكثر ولا أقل»، يردّد شبان نلتقيهم في بيوتهم، أو أنه اليأس: «إذا اتفقوا (أي السياسيون) فعلينا وإذا اختلفوا فعلينا» يقول فراس الذي أنهى تعليمه الثانوي ويتردد في دخول الجامعة «لضيق ذات اليد».
تلفت خلود إلى أن في المخيم سكاناً لبنانيين، لجأوا إليه لأنه «مكان للفقراء»، وتتعجب عندما تسأل عن «عراقيين في المخيم»، هي التي تعيش في البرج منذ ولدت قبل 38 عاماً، تحفظ زواريبه وأناسه وبيوتهم، وتقول إنها «لم تلمح أي غريب». لا تنفي خلود أن ثمة حالة من الخوف سيطرت «لوقت بسيط».
كيف زال الخوف؟ تستغرب السؤال وتجيب بعفوية: «كلام السيد حسن (نصر الله) أزاله». تؤكد خلود ثقة أهل المخيم الكبيرة بالسيد، تعلّق بأنها باتت تحب الموزع الموسيقي هادي شرارة «لأنه أطل أخيراً على التلفزيون وقال إن السيد أحسن إنسان. هذا فنان بيفهم».
خلود ليست حالة استثنائية. معظم أهل المخيم يرددون كلامها، وإن كان من الصعب أن يفصل اللاجئ الفلسطيني في كلامه بين الخاص والعام. فعندما تسأله عن حاله يبدأ تحليلاته السياسية. الكلام على المخيم يجرّ إلى مؤتمر أنابوليس، وإلى الوضع الفلسطيني في الداخل «الذي سينعكس علينا بالطبع، فمحمود عباس وفؤاد السنيورة وجهان لعملة واحدة» يقول أبو نادر صاحب دكان سمانة وسط المخيم. ويصرّ الرجل على أن يكمل فكرته ولا يتوقف عن الكلام مع دخول زبون جديد، بل يشير لسائله إلى مكان البضاعة المطلوبة ويتابع أن «المؤامرة تُحاك ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني»، ويلفت إلى أن لجنة تشكلت من جميع الفصائل وأنها أمسكت بالوضع الأمني في المخيم، وينتقد غياب الندوات واللقاءات التثقيفية «التي تزيد الوعي لدى أبناء المخيم»، ويختم بأن «العلاقات مع الشيعة لن تتأثر بالحملات الطائفية».
محمد عبد صفدي يتحدث عن شيء من القلق، فبناته يتابعن دراستهن خارج المخيم «والوضع اللبناني مضطرب، الخوف يطال ما يحصل خارج مخيم البرج بعكس ما تقول وسائل الإعلام». يرفع صفدي صورة الرئيس ياسر عرفات «في صدر البيت»، ويعلن أنه يحب «لحود وعون، وللسيد نصر الله المنزلة الأولى في قلبي، كيف لا نصدق من يدافع عنا ويقاوم عدونا؟».
يصرّ صفدي على أن العلاقات بين أبناء المخيم وسكان المناطق المحيطة به «أكثر من رائعة»، وتذكّر خلود «لا نتمتع باكتفاء ذاتي في البرج، نشتري معظم حاجاتنا من المحال المجاورة».
في سوق برج البراجنة وفي المحلات الملاصقة للمخيم في شارعي الرويس وحارة حريك، سيسمع السائل عن أهل المخيم كلاماً واحداً عن «العلاقات الطيبة وأن فتنة لن تمرّ من هنا».
غسان قدّور في العقد الثاني، يعمل في مؤسسة «عنان» للألبسة في الرويس، بدا مستاءً من السؤال عن إمكان حصول فتنة، قال إن معظم زبائنه من أهل المخيم، وإن «السوق منتعشة، وتهويلات السياسيين لا تخيفنا». يندفع غسان في حديثه فيؤكد أن «الخلاف الذي وقع خلاف فردي، نحن نزور المخيم، ندخله ونخرج منه ولا نلاحظ أي أمر سيئ».
كيفما اتجه المرء في الأسواق الملاصقة للمخيم سيسمع كلام غسان نفسه، سيرى أناساً لم ترهبهم التهويلات فحافظوا على يومياتهم كما هي، «ما يُقال عن المخيم لا يثير القلق، خوفنا من الوضع اللبناني العام».



الفلسطينية الشقراء

«متى ينتهي زمن العنصرية؟» تسأل رنا العائدة من جامعتها في بيروت. الصبية الشقراء تواجَه دائماً بسؤال: «هل معقول إنت فلسطينية؟!».
لم تتوقع أن تتحول رحلتها اليومية في الباص إلى الجامعة العربية إلى مناسبة تستمع خلالها إلى «كلام عنصري ضد الفلسطينيين». تقول إنها سمعت مراراً أن الفلسطينيين «سود وبشعون ولا يتعلمون».
وغالباً ما تسمع أيضاً من زملائها الذين يسكنون في حارات بيروتية الكلام الآتي: «استضفنا الفلسطينيين وأكرمناهم كما لم يُكْرَموا ولا في بلد عربي لجأوا إليه، ثم حميناهم وحاربنا عنهم، لكنهم بلا وفاء وما نلنا منهم سوى الخراب والنوايا السيئة تجاه لبنان».



الأسعار الطائرة

أمام مشاهد الفقر المدقع الذي يعانيه أبناء مخيم البرج، يبدو كلام التهويل محاولة جديدة لزيادة البؤساء. أمّ أشرف مشغولة بالأسعار التي «تطير كالصاروخ»، وتقول: «كنا نشتري كيس الحليب قبل شهور بـ 3750 ليرة وصار الآن بتسعة آلاف».
ازدادت الأسعار ، وما يرسله الأبناء المهاجرون لم يعد يكفي. تضحك أم أشرف إذ تُسأل عن التوطين: «إنتو فين والحياة فين»، تتنهد وتضيف: «يا بنتي المهم أن نأكل. نحن لا نريد أن نبقى في لبنان. لنا وطن اسمه فلسطين ونريد أن نعود إليه، ونقطة على السطر». ثم تعود إلى حديث غلاء الأسعار، وتقول إن جاراتها زدن من برامج التوفير: «معظم اللزوميات صارت من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، كتّر خيرهم التجار فقد قدموا عروضاً على الشامبو».