strong>بلال عبود
  • يوم في حياة عمّال سوريين: مزاحمة، ملاحقات ودوريات درك

  • لطالما واجهت العمال السوريين في لبنان المتاعب التي تبدأ بالانتقادات الكلامية وتصل، في حالات الاحتقان، إلى التعدّي والضرب. رغم ذلك، لا تزال العديد من الجسور اللبنانية تأوي في ظلالها عشرات العمّال المنتظرين لفرصة عمل يومية...
    كيف يمضي هؤلاء نهارهم؟


    يستيقظ يوسف ع. يومياً عند الساعة الرابعة فجراً ليؤدي صلاته قبل أن يتحضر للانطلاق مع مجموعة من رفاقه من منطقة الصفير في الضاحية الجنوبية إلى مكان عملهم اليومي تحت أحد الجسور في بيروت أو الضاحية. كوبٌ واحد من الشاي و«لقمة صغيرة» هما الفطور اليومي، ثم يبدأ المسير على الأقدام إلى النقطة المحددة ليوم العمل حيث يقضون النهار بانتظار مرور من يحتاج إلى خدماتهم في إطار أعمال تصنّف تحت خانة «اليد العاملة الرخيصة».

    ساعات الانتظار

    موعد الوصول إلى الجسر «المختار» هو السادسة صباحاً حيث تبدأ ساعات الانتظار الطويلة تحت الجسر وعلى جانب الطريق.
    ولأن الرزق لا يأتي بسهولة، كلّ الأيام هي يوم عمل بالنسبه إليهم ولا فرق بين أول الأسبوع وآخره. «إذا لم تعمل تموت من الجوع»، هذه المعادلة أساسية وتتردد على لسان كل العمال السوريين الذين التقيناهم جازمين بأن هذا العمل هو حكر عليهم
    فقط.
    خلال الانتظار يفترش البعض الأرصفة المحيطة بالمكان فيما يتبادل آخرون الأحاديث عن مواقف حصلت معهم أو عن عمل معين قاموا به وحصلوا على مبلغ جيد من خلاله أو عن مشكلة تعرضوا
    لها.فجأة، تتوقف إحدى السيارات قربهم.
    هذه هي الإشارة التي ينتظرونها. يركض الشباب ناحية من قد يكون رب العمل لهذا اليوم ويتجمهرون حول السيارة ليبدأ نقاش مع طالب الخدمة حول العدد الذي يريده من العمال والبدل اليومي الذي سيدفعهالمزاحمة شرط أساسي للحصول على دور بين العمال، ومن يصل أولاً إلى السيارة يكن صاحب الحظ الأوفر. لكن الاختيار في أغلب الأوقات يكون من قبل «المعلّم» أي طالب الخدمة. «بعض الأشخاص يختار شباباً معينين لأن ثيابهم أنظف من غيرهم خوفاً على سيارته» يعلّق أحمد رمضان ساخراً، وإن مهارة محددة في نوع معين من الأعمال قد تساهم في اختيار أحد الشباب بدلاً من غيره، «فعندما يكون صاحب العمل بحاجة إلى معلم بلاط يصبح الاختيار محصوراً بمن يملكون هذه المهارة»، لكن هذا لا يمنع بعضهم من ادعاء امتلاك مهارة معينة، وإن كان لا يتمتع بها، من أجل الحصول على فرصة عمل تمكّنه من توفير يوميته.
    يتقنون الكثير من الأشغال بدءاً بأعمال البناء على اختلاف أشكالها وصولاً إلى نقل الأثاث والبضائع والتنظيف.
    لكن السبب الذي يجعلهم يفضّلون الوقوف تحت الجسور بدل العمل في الورش مثل الكثير من غيرهم من العمال الأجانب في لبنان هو البدل المادي، «يومية العامل في الورشة محددة بعشرة دولارات لا تزيد، بينما تحت الجسر قد تصل أحياناً إلى خمسين ألف ليرة لبنانية حسب الاتفاق المسبق، لكن ذلك يعني أن العمل سيكون شاقاً
    جداً».

    ذهب الجسر وبقي روّاده

    يأتي «روّاد الجسور» إلى لبنان من مناطق محددة في الريف السوري، وبشكل رئيسي من الحسكة ودير الزور ومحيطها. تراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخمسين، يحمل بعضهم شهادات ولا يحب الحديث عنها لأن في لبنان «السوري هو سوري بشهادة أو بلا شهادة»، كما يعلّق مروان ف. الذي يمضي في لبنان فترات متقطعة تمتد بين ثلاثة أشهر وسنة يعود بعدها لزيارة الأهل. أما في حال حدوث طارئ سياسي أو أمني في لبنان فتكون المغادرة فورية لأنه عند ذلك سيصبح أي سوري عرضة للملاحقة والاعتداءهذا التخوّف من الاعتداءات يجعل العمال السوريين يختارون مراكز عملهم وفقاً لحساسية الوضع، فيبتعدون عن عدد من الأماكن ال تي يعتقدون أن أبناء محيطها يكنّون لهم فيها مشاعر العداء. تراهم اليوم موجودين تحت جسور البربير، الأوزاعي ـــــ السلطان إبراهيم، الدورة وبعض الجسور القريبة من الضاحية. جسر الكولا، مثلاً، تحول إلى ذكرى عند العمال السوريين لا يقتربون منه مطلقاً، أما «جسر المطار» الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية في حرب تموز 2006، فلا يزال يشكل نقطة التقاء لهم.

    عنصرية واحتقار

    وعلى رغم اتخاذ جوانب «الحيطة والحذر» في اختيارهم المكان منتظرين فرصة العمل اليومية، تبقى احتمالات التعرض لمضايقات وإهانات واردة.
    يروي عدنان م. وهو واحد من العمال الذين يقفون تحت جسر البربير كيف نهب حقَّه شخصٌ لبناني استأجره لينقل له كمية من «أحجار الباطون»، وفي نهاية النهار لم يقبل أن يدفع له يوميته بل هدّده بالضرب إذا لم يغادر فوراً.
    ويأسف عماد ش. لما يصيب العامل السوري في لبنان، «كل ما نطلبه أن نعامل مثل البشر»، راوياً ما يقوم به أحد الموظفين في بلدية الغبيري من مهاجمتهم لمنعهم من التواجد تحت الجسر بحجة المحافظة على الحديقة، مع ما يرافق ذلك من إهاناتٍ وشتائم، مستغرباً أن يأتي هذا التصرف من بلدية الغبيري «المحسوبة على حزب الله».
    هناك أيضاً السرقة التي يتعرضون لها من قبل بعض «الزعران» الذين يجبرونهم على دفع ضريبة، ومن يرفض يعرّض نفسه للضرب والإهانة، وخصوصاً بالقرب من منطقة السلطان إبراهيم حيث منتمون إلى تيارات سياسية ترى في السوري عدواً لا مانع أخلاقياً من سرقة حقوقه.
    هذا الأسلوب من المعاملة مع العمال لا يتوقف على المواطنين اللبنانيين العاديين بل يتعداه إلى رجال الأمن والدولة. فيروي سعيد ق. ما حصل مع أحد زملائه تحت جسر الأوزاعي ـــــ الجناح، «أوقفته دورية للدرك وطلبت أوراقه، وهو إجراء يومي يحصل مع كل العمال السوريين، وعلى رغم أن أوراقه قانونية إلا أنه اقتيد إلى مخفر الأوزاعي وهناك أُجبر على تنظيف غرفه وزنازينه، وبعد الانتهاء أُفرج عنه في آخر النهار من دون مقابل ما عدا الأسف الشديد لتوقيفه بسبب تشابه الأسماء
    فقط».
    وتصل المضايقات إلى حدّ قيام أحد رجال الأمن الداخلي بتمزيق الأوراق القانونيـــــــــة وتصريح الدخول، كما حصل مع عمر أ. أثــــــناء عـودته من منطقة الـدورة. وعلى رغــــــم وجود الكثير من الأمثلة، إلا أن الشباب يفضّلون عدم تقديم الشكوى: «لمن أشتكي؟ سأذهب إلى المخفر نفسه الذي قام عناصره بإيذائي، فهل سيساعدونني؟».
    وحماية لنفسه من دوريات الدرك، ابتكر فراس عابد (16 عاماً) وهو أصغر عامل سوري يقف تحت جسر الجناح، أسلوباً خاصاً به وهو أن يرتدي ثياباً مختلفة عن زملائه من العمال بحيث يبدو لحظة وصول الدورية وكأنه أحد المارة... حلّ أمني جيّد لكنه قلّص من فرصه في الحصول على عمل.
    ويشكل فراس حالة استثنائية بين زملائه. لقد اضطر إلى ترك مدرسته في سوريا منذ تسعة أشهر وأتى إلى لبنان ليعيل عائلته التي تعيش في قريته «سراقب». لكن حلمه بإكمال دراسته، كما العودة إلى بلدته، لا يفارقه. يؤكد أنه سيحصل على شهادة البريفه وسيجلب الكتب ليدرس ويقدم طلباً حرّاً للامتحانات. وعلى رغم أنه يصنّف نفسه «معلّماً» في «تلبيس الحجار»، يريد إكمال دراسته من أجل الحصول على شهادة في تصميم المواقع الإلكترونية، وخصوصاً أنه يمضي ساعتين يومياً بعد انتهاء دوام العمل في مقهى إنترنت محادثاً إخوته وأصدقاءه في سوريا.



    التجاوزات تحصل... ولكن

    أجاب مصدر أمني لبناني في وزارة الداخلية عن أسئلة «الأخبار» عن شكاوى العمال السوريين من بعض المخالفات التي يتعرضون لها. فأبدى رفضه المطلق، وقوى الأمن، لأي انتهاك يتعرض له أي إنسان، موضحاً أن القانون لا يسمح «بتوقيف أي شخص واقتياده الى الفصيل إذا كانت أوراقه قانونية أو لم يرتكب مخالفة». وأكّد المصدر أنّ «مديرية قوى الأمن الداخلي تعاقب أي عنصر أو حتى آمر فصيل في حال انتهاك حقوق الآخرين من لبنانيين وغير لبنانيين، ولكن لا بدّ من إجراء تحقيق للتأكد من صحة هذه المخالفات وإجراء المقتضى القانوني»، ناصحاً أصحاب الشأن بالتقدّم بشكاوى إلى المخافر للتحقيق بشأنها.
    ولدى الإصرار على صدقية ما نقله بعض العمّال من الحائزين كامل الأوراق القانونية، لم ينف المصدر إمكانية حصول بعض التجاوزات من قبل بعض العناصر، مثل إجبار بعض الموقوفين على تنظيف الفصيل أو الزنزانة الموجود فيها، إلا أنه اعتبر أن دافع هذا العمل قد يكون إيجاد وسيلة لإشغال الموقوف المخالف من جهة، والمحافظة على نظافة المخفر من جهة ثانية!