إبراهيم الأمين
إخفاقات الحرب الإسرائيلية في لبنان. هذا ما يناقشه قادة العدو من المستويين السياسي والعسكري. وذلك ربطاً بما يفترض أنه قلّة تحضير واستعداد للحرب التي لم تحقق هدفها في القضاء على المقاومة، وتهيئة المناخ للقضاء على المقاومة في فلسطين أيضاً، ودفع سوريا نحو حائط التسوية على الطريقة الإسرائيلية.
وحتى إشعار آخر، فإن الجميع في إسرائيل وخارجها، سيتصرف مع نتائج الحرب على أساس أنها إخفاقات في الأداء الإسرائيلي، وبالتالي فإن الدونية المضمرة ستظل تسكن العقل العربي حتى في لحظة منع إسرائيل من الانتصار أو دفعها إلى الهزيمة. وهي دونية تجعل المناقشة أو المراجعة محصورة في جانب واحد، ولدى طرف واحد، ما يعني عملياً أن الجميع أو من يقرّ منهم بفشل إسرائيل في حربها يتصرف على أساس أن العدو متى كان جاهزاً فهو سينجح حتماً. وهذا المنطق يخفي ضمناً أن الطرف الآخر، أي نحن العرب، أو المقاومة على وجه الخصوص، لا تملك عناصر النجاح أو الانتصار، بل تملك حظ فشل العدو أو عدم قدرته على إدارة عمله بصورة حسنة. وهذه هي الحال التي ترافق البحث القائم حالياً في إسرائيل وفي أمكنة أخرى. وبالتالي فإن المراجعة التي يمكن أن يقوم بها المعنيون في كل الأمكنة الأخرى، لا تلحظ حقيقة أن ثمة تطوراً حصل خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو تطور يأخذ في الاعتبار ضرورة فهم العدو ونقاط ضعفه وضرورة توفير ما يمكن توفيره من عناصر النجاح. وثمة مرحلة أخرى من التطور التي نقلت الاستعداد في الجانب العربي من مرحلة استيعاب الصدمة إلى مرحلة تجاوز الخطر، وصولاً إلى مرحلة الصمود، ما يتيح الاقتراب من لحظة الإمساك بزمام المبادرة خارج حدود الدفاع عن النفس.
لم يخرج في إسرائيل حتى اللحظة، أو في ما هو معلن من تقويم، من يقول إن المقاومة في لبنان وفّرت لنفسها عناصر النجاح، وإن إسرائيل بذلت ما في وسعها ولم تنجح في تحقيق الأهداف. وهو المنطق الذي يحاكي دونية الأطراف السياسية والجهات الشعبية العربية واللبنانية على وجه الخصوص التي تقول إن إسرائيل لا تهزم، وقد خرج بعد حرب تموز الماضية من يقول إن إسرائيل لم تستخدم كامل قوتها، ولو أرادت ذلك لما أبقت على شيء من ذكر المقاومة في لبنان. وهو كلام في الهواء ربما يحاكي بعض المشعوذين في إسرائيل من الذين كانوا يعبّرون عن نفاد صبرهم من استمرار العبء الذي اسمه «حزب الله». وكانوا يرددون في كلامهم عبارات الاستئصال والاقتلاع والتدمير الكلي وما إلى ذلك من صور عدمية لم يذق سابقاً سوى اليهود طعمها.
ومرد هذا المنطق النظرة الفوقية التي تسكن العقل الاستراتيجي في إسرائيل، وهو العقل الذي خلص بعد توقيع اتفاقية السلام مع مصر قبل ثلاثة عقود، إلى أن زمن الحرب مع العرب قد ولى، وأن ما يمكن أن يحصل مع فلسطين أو سوريا أو لبنان مجرد عمليات عسكرية ذات طابع حربي، وهو ما أشار إليه تقرير لجنة فينوغراد لعدم توافر الجهوزية المطلوبة لمواجهة احتمال الحرب، وهي جهوزية تتطلب أولاً تقدير حجم وواقع استعداد الخصم، كما تتطلب آليات تعطيل قدرات الخصم وإعادة تثبيت فكرة الردع في الذهن العربي وفي عقله الباطني. وتتطلب أكثر من ذلك الاستعداد لدى الجمهور في إسرائيل، لا لدى القيادة فحسب، لتحمّل كلفة مواجهة من هذا النوع. وقبل فترة قصيرة أبلغ قائد عسكري إسرائيلي، استقال بسبب الحرب، صحافياً أجنبياً في تل أبيب أن المشكلة الفعلية هي في النظرة الإسرائيلية التي لا تنظر بعقل علمي إلى ما يجري في لبنان. ولم يجد الصحافي الأجنبي تعبيراً بليغاً سوى كلمة «الاستخراء»، التي على قساوتها، تعبّر برأيه عما كان يدور في خلد قادة يلعبون دوراً رئيسياً في التخطيط أو في التنفيذ.
لكن واقع الأمر يتطلب القيام بخطوة من نوع مختلف، وخصوصاً أن الفضيحة الإسرائيلية تستمر فصولاً في محاولة الهروب من حقيقة أن خصمهم في هذه الحرب جديّ وقادر، ويملك استعداداً للعمل والتضحية يتيح له الصمود والانتصار. وآخر فصول عملية الهروب اتهام مناضل مثل عزمي بشارة بأنه قدم خلال الحرب معلومات أفادت المقاومة في حربها. وحولوا تحليلاته ومقارباته لواقع الحال الى معلومات أفادت المقاومة في لبنان. وكأنهم يريدون هذه المرة شريكاً عربياً في تحمّل نتائج الهزيمة، وهم في هذه الحال لا يريدون للفلسطينيين في أراضي الـ67 الاستفادة من هذه التجربة، ولا يريدون لفلسطينيي الـ48 التعامل مع محتل مهزوم، بل يريدون، على العكس، أن يدفع أهالي الضفة وغزة ثمناً من خلال تنفيس الغضب عليهم، ويريدون من أهالي الـ48 أن يدفعوا ثمن عدم قيامهم بدور مساند للحرب الهمجية على لبنان.
لكن السؤال المركزي يظل حول كيفية تعديل آلية النقاش. وإذا كان صعباً على قادة العدو، من جميع المستويات، الإقرار بأن الامور تسير عكس ما هو مطلوب، فإن على الجانب الآخر، وتحديداً على المقاومة، ألا تكتفي بإظهار توازنها النفسي كما فعل الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله أمس حين بادر، بوصفه منتصراً، إلى إبداء الاحترام والتقدير لعدو غارق في أزمته، بل على هذا الطرف المبادرة الى تقديم قراءته لأسباب انتصاره في هذه الحرب، وعدم البقاء في دائرة تعداد أسباب فشل العدو في تحقيق أهدافه. وإذا كان العقل العسكري في «حزب الله» قد أنجز ما هو مطلوب منه على مستوى مراجعة كل تفصيل في الحرب الاخيرة ووصل الى ما يجب الوصول إليه من خلاصات ونتائج تفيده في المرحلة الجديدة، فإن على هذا العقل البحث في آليات تظهر للعرب أولاً، ومن بعدهم لإسرائيل وللعقل الغربي، أن هناك إمكانية جدية وواقعية وبأكلاف موضوعية تتيح توفير أسباب النجاح في مواجهة من ضمن مواجهات الحرب المفتوحة مع إسرائيل.
ثمة أسباب كثيرة للانتصار، وثمة أسرار من شأنها إغراق إسرائيل في بحر لجان التحقيق. لكن الأكيد أن هناك جدول أعمال جديداً يجب إنجاز موجباته قبل اقتراب المواجهة الجديدة، وفي هذه الحال ربما يشهد العالم نموذجاً جديداً من المقاومة التي تدرس أشكالاً جديدة في الهجوم من باب الدفاع الاستراتيجي.