غسان سعود
لم يُكمل إمام مسجد جامع الأقصى في مخيم نهر البارد قول «لا إله إلا الله»، حتّى تهافت الرصاص ليسابق الفجر في تلوين السماء، وعلت الصرخات من كل صوب «الله أكبر... الله أكبر... أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّد رسول الله». الثالثة فجراً، طريق المنية ـــــ عكار مظلمة كعادتها. فجأة تلوح في السماء شرارات حمراء، يهدر صوت الرصاص، وتطل على جانب الأوتوستراد وجوه تختبئ خلف «الكوفية» المرقطة بالأسود والأبيض. يشهر أصحاب هذه الوجوه رشاشاتهم الصغيرة الحجم أمام المارة، ويطلقون النار بدقة في اتجاه عناصر الجيش اللبناني الذين فوجئوا بالهجوم. الأمر الذي أدى إلى تبعثر صفوفهم، وإصابة عدد كبير منهم، وتشرّد معظمهم وهم لا يدرون ماذا يفعلون، أو ممّن يتلقّون الأوامر وكيف، في غياب الأجهزة اللاسلكية.
حرب حقيقية
مضت الساعة الأولى لتبدأ مرحلة أخرى، باشر الناس المجتمعون في أزقّة المخيم الضيقة يتهامسون عن خطورتها، وخصوصاً بعدما علموا أن اشتباكات مماثلة تحصل في عدة أحياء من طرابلس. الأمر الذي دفع الجيش إلى طلب تعزيزات تأخّرت بحسب أحد القادة الأمنيين، لعدم اطمئنان القيادة إلى خلو الطريق من الكمائن. كما عمد الجيش إلى اطلاق عشرات القنابل المضيئة علّه يكتشف مكان وجود مطلقي النار، لكن من دون نتيجة. فقد استمر انبعاث الرصاص المنظم والموجه بدقة وبغزارة من تحت الأرض، ومن فوق أسطح البنايات، ومن وسط الأشجار الكثيفة.
الخامسة فجراً، لا تجد مآذن الجوامع من يملأ فراغها بالدعاء الفجري، وتمضي عيون النسوة والأطفال لتسترق النظر من خلف نوافذ المنازل، فيما غاب الرجال تماماً عن المشهد حتى لا يتّهموا، بحسب قول إحدى السيّدات، بالاشتراك مع «فتح الإسلام» في اطلاق النار على الجيش اللبناني.
يسمح ضوء الصباح برؤية مزيد من الوضوح في الصورة. فقد الجيش معظم مواقعه في محيط مخيم نهر البارد. أصيب عدد كبير من العسكريين. توفي البعض، وهرب كثيرون. حالة الشلل عند الجيش اللبناني شبه كاملة. ومعنويات الخارجين من المعركة مدمّرة بالكامل، يرفض معظمهم التعليق، فيما يشتكي بعضهم من هفوات تنظيمية. وفي المقابل، يمضي المسلحون بإطلاق النار، وتلمع من فوق أسطح البنايات رشاشات قنّاصيهم. هنا يطلقون النار على سيارة ليحذروها من اكمال طريقها صوب بيروت، وهناك يصيبون كلباً، وهنالك يحاول البعض التقدم نحو نقطة الجيش الشمالية في نهر البارد فيصدم بوجود «الإسلاميين فيها». ووسط هؤلاء يُخرج بائع القهوة الشهير على «دوار العبدة» قارورة الغاز من عربته النقالة، ويجلس مكانها. فيما صيادو الأسماك في مرفأ العبدة يطلقون صفاراتهم لطلب النجدة بعدما فقدوا القدرة على فهم ما يحصل في المساحة التي تركوها قبل ساعات قليلة آمنة وهادئة.
إنّها حرب حقيقية إذاً. تبدأ تعزيزات الجيش بالوصول إلى المخيم من الجهات المختلفة، وتؤازرها متأخرة الزوارق الحربية لمنع مقاتلي فتح الإسلام من الهروب بحراً. يبدأ الدفاع المدني والصليب الأحمر بنقل الجرحى. يقدم الأول نموذجاً مميزاً في الجهد، فيما يتريّث «الحمر» في دخول منطقة التقاتل. وجرى نقل القتلى والجرحى الى اقرب المراكز الطبية، بينما تولت مروحيات للجيش نقل آخرين الى مستشفيات عكار.
الحادية عشرة ظهراً، لا يقرع جرس كنيسة الحي المسيحي في العبدة. وتمضي الساعتان اللتان وعد وزير الشباب والرياضة أحمد فتفت حل الخلاف خلالهما دون أي نتيجة. تزداد في المقابل حدة القتال، بعد أن استغنى طرفا الصراع عن أسلحتهما الصغيرة ولجآ إلى تلك الكبيرة، وسط شائعات عن نجاح أحد مقاتلي فتح الاسلام في سرقة ملالة تعود للجيش اللبناني. وتزامنت هذه الشائعات مع الأخبار الصحيحة عن الكمائن الناجحة التي نصبتها الحركة للجيش في أكثر من مكان.
يُطلب من أفراد القوى الأمنية العكاريين الالتحاق بمراكز المحافظة، في الوقت الذي شهدت فيه معظم البلدات العكارية بلبلة كبيرة ناتجة من تضارب في أسماء القتلى والبلدات التي ينتمون إليها، وسعت معظم العائلات إلى إقناع شبانها بعدم الالتحاق بخدمتهم رغم النتائج القانونية السلبية الكبيرة التي تترتب عليهم في حال كهذه. وكان تحديد ملامح فتح الاسلام السياسية يتسبّب بتشنّجات وسط الأهالي في بلدات عدة، حيث انقسم الناس بين من يجد الحركة «تخريباً للإسلام»، ويقول إن الولاء في القرآن يفترض أن يكون «لله عز وجل» فيما ولاء ابناء هذا الفريق لسوريا وإيران، وآخر يجزم أن «فتح الإسلام» يتبع ضمنياً لتيار «المستقبل» ويتغذّى منه مالياً.
ولم يسلم الجيش بدوره من الانتقادات، وخصوصاً من جانب أهالي المصابين الذين سألوا عن دور مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، وشعبة المعلومات «التي تطالب اليوم بميزانية خاصة». وانتقد هؤلاء الطريقة التي يوزع فيها العسكريون على أطراف المخيم، ظهرهم باتجاهه، ودون حماية. وفي المقابل، رفض أحد العسكريين المصابين، وهو من إحدى أكبر البلدات السنية في عكار، الدخول في نقاش هذه التفاصيل، مكتفياً بتمني القضاء على هذه العصابة التي نصبت كميناً شبه محكم للجيش ونجحت بالانقضاض عليه في لحظة سياسية حرجة. ويسأل الشاب الثلاثيني عن مغزى استهداف هؤلاء للجيش اللبناني فيما أعداء المسلمين والعرب يحيطون باللبنانيين من كل صوب، ويتعرضون للجيش في معظم الأوقات.
الواحدة ظهراً، تتضح الصورة أكثر. يعترف الجيش بخسارته معظم المواقع وخوضه معارك شرسة مع «الأصوليين الاسلاميين» على مدخلي المخيم الشمالي والجنوبي، إضافة إلى «أم المعارك» على مشارف بلدة «المحمرة» التي تكبد الجيش فيها خسائر كبيرة، وظل حتى ساعات المساء الأولى يحاول استرجاع مواقعه فيها. كما دمر مركز الجيش اللبناني، شمال المخيم، بالكامل. لكنّه نجح باستعادته بعد معارك ضارية استمرت أكثر من ثماني ساعات انتهت باستخدام الجيش أكثر من سبع ملالات ومدافع الـ106.
ووسط رائحة البارود، في قلب المعركة، تبدو صورة الحرب البشعة. جيش يطلق النار بكل الاتجاهات، يصوب رشاشات ملالاته باتجاه المخيم، ويهدم المراكز التي يشتبه باختباء الاسلاميين فيها، فيما لا تهدأ أجهزة الاتصال بنقل الرسائل من هذا المكان الذي يمنع التصوير فيه إلى النقاط الحامية الأخرى. ووسط تبادل اطلاق النار، جهد عناصر الدفاع المدني في نقل المصابين والمستشهدين والعائلات التي احتجزت داخل منازلها دون أن تؤمّن المواد الأولية الضرورية، وكان انجاز الدفاع المدني الأبرز انقاذ ثمانية عسكريين كانوا محاصرين، وإخراجهم بثياب مدنية. علماً أنه حتى الساعة السادسة مساءً، كانت حركة النزوح من المخيم لا تزال صغيرة، وبعض تجاره فتحوا محلاتهم، لكن سرعان ما غير مشهد الغروب من هذه البرودة، فحزمت عائلات كثيرة أمتعتها للتوجه إلى منازل أقربائها الواقعة خارج المخيم.
طرابلس
ومن عاصمة الشمال، أفاد مندوب “الأخبار” عبد الكافي الصمد أنّ الاشتباكات كانت قد استمرت في محيط بناية عبده ومجمع البستان بطرابلس طيلة ساعات قبل الظهر، وسط سماع دوي القذائف وإطلاق الرصاص في أرجاء المدينة والمناطق المجاورة لها، من غير أن تستطيع القوى الأمنية اقتحام أماكن وجود المسلحين الذين تحصنوا في بعض الشقق وبعض السطوح وفي ملجأ المبنى. وبعيد الواحدة من بعد الظهر، دخل الجيش المبنى بعد قتل عشرة من المسلحين والقبض على 12 آخرين، بينهم مساعدون لقائد الحركة شاكر العبسي. وتحدّثت معلومات عن مقتل المدعو أبو يزن، الذي يعدّ الرجل الثالث في الحركة، والذي رجحت المعلومات أن يكون على علاقة مباشرة بتفجير عين علق في المتن.
لكن الاشتباكات انتقلت الى جوار مبنى الشيخ المهجور، عند تقاطع حي الزاهرية وشارع المئتين، بعدما تبين أن عناصر مسلحة أخرى من حركة «فتح الإسلام» تتمركز داخله. وسمعت أصوات القذائف الصاروخية في أرجاء المدينة على نحو كبير، قبل أن يحسم الجيش المعركة فيه باقتحامه. وتمكن معه عددٌ من المسلحين من الانسحاب إلى عدد من المباني المجاورة، حيث دارت اشتباكات لاحقاً.
وقرابة السابعة وعشر دقائق من مساء امس، انتهت العملية العسكرية الواسعة التي نفذها الجيش اللبناني في مدينة طرابلس، وبسط بعدها سيطرته الكاملة على آخر الأماكن التي لجأ اليها المسلحون في شارع لطيفة في حي الزاهرية. وقد تعقّبهم الى داخل الحي، فلجأوا الى مبنيين فيه؛ الأول يملكه فضل المقدم، والثاني تعود ملكيته الى طه ايعالي. فعمد الجيش الى محاصرة المبنيين، وجرى تبادل لإطلاق النار بين الطرفين. وعندما حاول احد المسلحين إطلاق قنبلة يدوية باتجاه عناصر الجيش، أطلقت عليه النار من الجهة المقابلة فسقط على الأرض بعدما أصيب جراء ذلك، ثم ما لبث أن انفجرت القنبلة اليدوية التي كانت موجودة في يده، فلقي مصرعه على الفور الى جانب اثنين من رفاقه.
وقد استكمل الجيش مهماته بعد ذلك، فألقى القبض على أحد المسلحين، وحرر طفلين صغيرين كانا في مبنى المولوي. كما اعتقلت عناصر الجيش شيخاً مقيماً في مبنى ايعالي من اجل التحقيق معه بعد الاشتباه به. وترافق انتهاء العملية العسكرية في الزاهرية، وبالتالي في طرابلس، مع نزول عشرات المواطنين الى الشوارع مهللين، وخصوصاً في منطقة التل وشارع عزمي. وسارت تظاهرات عفوية رفع أفرادها الأعلام اللبنانية، وهم يرددون هتافات التأييد للجيش اللبناني.
الكورة
وفي الكورة، نصب مسلحون ملثمون، يستخدم أكثرهم دراجات نارية، كميناً لقوة من الجيش على الطريق الدولية الساحلية الذي يربط طرابلس وبيروت، في المنطقة الواقعة بين المدخل الجنوبي لبلدة قلحات والمفترق المؤدي الى جامعة البلمند، مما أدى إلى استشهاد أربعة من أفراد الجيش وجرح ثلاثة آخرين.
واعترض المسلحون موكب الجيش، مما أدى الى انقلاب شاحنة واحتراقها واستشهاد وجرح من كانوا فيها. وعندما حضر عناصر الصليب الأحمر لإسعاف الجرحى، اعترضهم المسلحون من جديد وأطلقوا النار عليهم. وذكر شهود أن العناصر المسلحة كانت لا تزال حتى ساعات الظهر موجودة في منطقة القلعة في الكورة، وهي منطقة تضم قرى فيع ودده وبترومين وقلحات والجوار. واستقدم الجيش طوافات عسكرية، كما انتشرت على الطرقات المؤدية الى المناطق المذكورة قوات عسكرية إضافية عملت على إقفال المنطقة، فيما احترقت سيارة وسط الطريق الدولي بسبب تعرضها لإطلاق نار من الجيش.
المخيم ليلاً
أما في محيط مخيم نهر البارد، فقد استمرت الاشتباكات في المنطقة حتى المساء، وسط كر وفر بين عناصر «فتح الاسلام» وقوات الجيش، التي استطاعت السيطرة على منطقة العبدة، فيما استمرت الاشتباكات في المحمرة، وعند المدخل الشمالي للمخيم. وقد سمح الجيش بدخول ستّ سيارات إسعاف إلى المخيم، فنقل عدد من الجرحى إلى مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني.
وقد أدى تدهور الأوضاع الأمنية، الذي غاب عن الأذهان منذ نحو عقدين من الزمن، الى اقفال تام شهدته المدينة، وانعدام حركة المرور في الشوارع التي انتشر فيها الجيش والقوى الامنية.



الرواية الرسمية
بيانات ومعلومات القوى الأمنية والعسكرية

روت مصادر أمنية رسمية أن ستة مسلحين ملثمين سطوا على فرع «بنك البحر المتوسط» في بلدة أميون ـــــ الكورة، حيث دخل أربعة منهم الى داخل المصرف، فيما بقي اثنان خارجه من أجل تأمين الحماية. وتمكنوا من سلب مبلغ 152 مليون ليرة لبنانية، وفروا الى جهة مجهولة. ولفتت هذه المصادر إلى أن السيّارة التي اشتبهت بها قوى الأمن الداخلي في شارع المئتين تشبه تلك التي فرّ بها المسلحون الذين سطوا على المصرف. وعندما حاولت القوى الأمنية التحقق من هويات ركاب السيارة، حصل تبادل لإطلاق النار، تطوّر لاحقاً إلى اشتباكات عنيفة بعدما تبيّن للقوى الأمنية وجود عناصر من «فتح الإسلام» في بناية عبده ومجمع «البستان» السكني المجاور والمكوّن من أربعة مبان.
ومع استمرار الاشتباكات طلبت قوى الأمن مؤازرة الجيش الذي أرسل قوة طوّقت المكان، وأقفلت الشارع المذكور بكامله، امتداداً من إشارة المرور عند جادة فؤاد شهاب ومدخل حيّ الزاهرية، وصولاً الى محطة القطارات القديمة في الميناء، امتداداً حتى المحجر الصحي ومرفأ طرابلس ومنطقتي الملولة والمنكوبين على تخوم البداوي.
أما بيان قيادة الجيش فقال إنه «على أثر قيام مجموعة من قوى الأمن الداخلي بمداهمة مبنى داخل مدينة طرابلس والاشتباك مع مسلحين، أقدمت عناصر تابعة لحركة فتح الاسلام على مهاجمة بعض مراكز الجيش في محيط مخيم نهر البارد والضواحي الشمالية لمدينة طرابلس، كما تعرضت لآليات عسكرية خلال انتقالها في منطقة القلمون، مما أدى الى وقوع إصابات بين قتيل وجريح في صفوف العسكريين. لا تزال وحدات الجيش في حالة اشتباك مع المسلحين وقد اتخذت التدابير الميدانية لتعقب هؤلاء المسلحين وضبط الوضع وفرض النظام».
بيان فتح الإسلام
وأصدرت حركة «فتح الإسلام» بياناً اعتبرت فيه أن «الجيش اللبناني يشن هجوماً لا مبرر له على مجاهدي حركتنا في مخيم نهر البارد، فهبّ مجاهدونا وقاموا قومة الرجل الواحد ليدفعوا هذا الظلم، وأردوا بعون الله العشرات من القتلى والجرحى في صفوف الجيش» وحذر البيان «الجيش من استمرار الأعمال الاستفزازية التي سوف تفتح عليه وعلى لبنان كله نيراناً وبراكين».