جوزف سماحة
تقرير «بيكر ـــ هاملتون» في الأسواق. انتهت الحملة، وصلت السلعة. حلّ زمن الترويج والبيع. لا ضرورة، فوراً، للدخول في التفاصيل. يمكن الاكتفاء باستعراض العناوين العريضة التي تسند «المقاربة الجديدة»، والتي تشكل مفصلاً مهمّاً في السياسة الأميركية والدولية، وخاصة في هذه المنطقة من العالم.
أولاً ــ التقرير هو إعلان إفلاس مدوٍّ للنهج الذي اتّبعته الإدارة الأميركية منذ ثلاث سنوات ونصف. اكتفى واضعوه بالملاحظة التجريبية للوقائع فخلصوا إلى هذا الاستنتاج. لا مقارنة بين اللغة المستخدمة والخطاب الرسمي الذي يكرّره جورج بوش وصحبه. عراق التقرير غير عراق الإدارة. عراق التقرير بين الرمادي القاتم والأسود. عراق الإدارة بين الأبيض والوردي. إن من تابع الكتابات الانتقادية في وسائل الإعلام الأميركية سيتعرّف إلى لهجتها في الوثيقة الجديدة ويمكن له أن يضيء بواسطتها على البروباغندا شبه الغوبلزية للأطروحة الرسمية ومروّجيها.
ثانياً ــ إعلان الفشل المشار إليه مرفوع، أساساً، في وجه جورج بوش برغم الرغبة في مداراة سيد البيت الأبيض. وليس سرّاً أن التقرير يعبّر عن قناعة ضمنية لدى بعض من في الإدارة نفسها، وعن قناعات توصّل إليها مشرّعون كثيرون وسبقهم إليها الرأي العام الأميركي وسبق الجميع الرأي العام العالمي. وحتى لو كان هناك، في الولايات المتحدة، من يخالف التوصيات، فإنه لا يقل إيماناً عن أصحابها بأن السياسة الحالية فاشلة وأن شعار «المثابرة على الخط نفسه» انتحاري. غير أن السؤال يبقى مطروحاً عمّا إذا كان بوش سيتبنّى النهج المقترح أو سيرفضه أو يحاول الانتقاء منه والبحث عن صياغات جديدة. وبما أن توقّع الاستدارة الاستراتيجية الشاملة غير وارد حالياً، فإن بوش سيعمد إلى تشكيل «باقة» تشمل عناصر من «بيكر ــ هاملتون»، ومن المراجعة العسكرية، ومن تقويم البيت الأبيض، ومن مذكرة دونالد رامسفيلد، ومن شهادة روبرت غيتس وربما من نصائح هنري كيسنجر.
ثالثاً ــ العنوان المركزي للتقرير هو أنه يعبّر عن عودة قوية لتيار المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية. عاد هذا التيار لاحتلال مركز مهم في السجال الوطني العام بعد أن نجح «المحافظون الجدد»، خلال الفترة الماضية، في جعل «الواقعية» تهمة شنيعة. لقد أفلح هؤلاء في تحميل «الواقعية» الأميركية في الشرق الأوسط عبء تفجيرات 11 أيلول، ودعوا إلى الرد بـ«حرب كونية رابعة»، ولم يرتضوا بأقل من إعادة هيكلة الشرق الأوسط مع اعتماد المركزية الإسرائيلية، وعياً وتوسعية. عودة «الواقعية» تعني تغليب الدفاع عن المصالح (الاستعمارية) الأميركية، وتأمين ما يضمن استمرارها، ومعالجة التحديات التي تواجهها من دون أوهام التغيير الأيديولوجي والفكري (وحتى الديني) والسياسي والمؤسساتي الشامل. عاد المناشفة في وجه البلاشفة يقول الخبثاء. الأصحّ القول عاد القوميون الواقعيون على حساب بائعي أوهام «الثورة الدائمة».
رابعاً ــ إن الوجه الآخر لعودة «الواقعية» هو عودة الدبلوماسية. كانت سياسة الإدارة (وقد تبقى) قائمة على عزل أي خصم، وقطع العلاقات معه، ورفض أي لقاء، وتقديم الإملاءات، وإعلان الشروط، وطلب الطاعة، والتهديد بإسقاط الأنظمة، وتوسيع لائحة «محور الشر»، وتشجيع التغيير الداخلي وتمويله... التسوية فكرة مرذولة لتعارضها مع «الوضوح الأخلاقي» المزعوم. جيمس بيكر يرى أن من وظائف الدبلوماسية الحوار مع الخصوم، عرض المطالب عليهم، السعي إلى إغرائهم، تحديد العقوبات لهم إذا لم يتجاوبوا. ليس من النوع الذي يتنازل كثيراً ويتراجع مجاناً. يأخذ ويعطي. يحاول أن يأخذ الكثير وأن يعطي القليل. يستكشف ثم يقرّر بعد أن يحاول ثانية وثالثة. يسعى إلى تحقيق المصلحة الوطنية عبر المنافع المتبادلة. يحترم موازين القوى ويسعى إلى تغييرها تدريجاً بدل التعامي عنها والإصرار على قلبها بشكل كامل وفوري.
خامساً ــ يوحي التقرير بضرورة إنهاء التناقض في السياسة الأميركية الحالية. فهي تزعم، من جهة، أن التغيير الواجب إحداثه في الشرق الكبير ينطلق من أن الحلقات متماسكة وتؤثر واحدة في الأخرى من نوع تغيير سوريا وإيران انطلاقاً من العراق. لكنها، من جهة ثانية، تستغرب إقدام الحلقات المتعرّضة للهجمة على التداخل وتنظيم الدفاعات الجماعية. ليس غريباً، والحالة هذه، أن يدعو التقرير إلى حل في العراق يكمن في التقاء عاملين: إعطاء وجهة جديدة للتدخل الأميركي في تلك البؤرة المتفجّرة أولاً، وثانياً إحاطة هذه البؤرة ببيئة إقليمية مستقرّة وصاحبة مصلحة في التعاون. كيف؟ بتوضيح خط إعادة تموضع في العراق لنقله من الاحتلال إلى الاستتباع، وبالعودة إلى تحريك مسار التسوية العامة في الشرق الأوسط، واعتبار ذلك حافزاً يؤكد أن الولايات المتحدة تريد استعادة مكانتها بعناصر قوتها الوديعة لا بالسطوة العسكرية فقط.
سادساً ــ لا يوحي التقرير بأي تنازل عن أي مطلب أميركي جوهري واستراتيجي: النفط وإمداداته، إسرائيل وتفوّقها، رفض السلاح النووي الإيراني، مكافحة الإرهاب، رفض تدخل دولة في شؤون الآخرين من دون إذن أميركي... ليس بيكر من يسجل على نفسه أي تراجع في أي من هذه المجالات. إلا أن بيكر، الواقعي، هو من يعجز عن فهم هوس التغيير الديموقراطي الذي لا يأتي إلى السلطة إلا بخصوم الولايات المتحدة، وهو من يدعو إلى ضرورة مغادرة هذه الأوهام التي أعطت الإدارة إشارات إلى أنها شرعت تغادرها.
سابعاً ــ لا يدعو التقرير إلى استنساخ سياسة مطلع التسعينيات، لكنه يدعو إلى التخلّي عن سياسة مطالع الألفية الثالثة. بكلام أدقّ، إنه يريد العودة إلى منطق التسعينيات لتطبيقه اليوم أخذاً في الاعتبار التحوّلات الطارئة على المشهد الشرق أوسطي: نعم لدولة فلسطينية، لكن لا لحدود 1967 ولا لعودة اللاجئين، سوريا خرجت من لبنان ولن تعود، بروز الحركات الجهادية الأصولية تهديداً جديداً، الصعود الإيراني، إلخ...
ثامناً ــ يمكن الجزم بأن تنفيذ التوصيات سيتعرّض لمقاومات عديدة. ستبدأ في الولايات المتحدة وربما في البيت الأبيض وسينضم إليها «المحافظون الجدد». ربما عبّرت إسرائيل عن خشيتها من أي تحوّل، وسعت إلى التدخل فيه وتعديله. سيشعر «معتدلون عرب» ببعض القلق وقد يعترضون على محاولة فتح حوار مباشر مع إيران وسوريا. ويمكن إيراد موقف السلطة اللبنانية في سياق الخشية التي يبديها هؤلاء المعتدلون. ومن المقدّر أيضاً أن تلقى الاقتراحات استقبالات متفاوتة في العراق نفسه بما ينسف أي أساس لجعلها قابلة للتجريب.
تاسعاً ــ يمكن التقدير أن السياسة الأميركية الفعلية ستستقر على مزيج من اعتبارات عديدة يشكل التقرير رافداً من روافدها. إلا أن ما يجب قوله، والتشديد عليه، هو أن الصراعات في المنطقة قد تمر في فترة عنف واشتداد كما في كل مرة يلوح فيها احتمال الدخول في مفاوضات وتسويات كبرى. ومع أن الزمن ضاغط فإن الركض نحو الإمساك بمزيد من الخيوط قد يتسارع. إن فلسطين ولبنان والعراق هي الساحات التي سيتعاظم التجاذب حولها.