جوزف سماحة
«الأميركيون باقون لأمد طويل في العراق والخليج». هذه «عيدية» وزير الدفاع الأميركي الجديد روبرت غيتس إلى العرب في أول زيارة له إلى بغداد. لم يكن أحد يتوقع العكس. ليس في المؤسسة الأميركية الحاكمة من يطالب بانسحاب كامل وسريع من العراق، أما الوجود العسكري في الخليج فقضية تكاد تكون خارج أي نقاش وذلك منذ عقود. لماذا؟ فتّش عن النفط.
لقد كان غيتس، حتى ما قبل تعيينه في منصبه الجديد، عضواً في لجنة بيكر ـــ هاملتون. والتقرير الصادر عن اللجنة يكاد يكون أفضل ما تستطيع النخبة الأميركية الحاكمة أن تنتجه في ما يخص قضايا الشرق الأوسط. لكن أن يكون كذلك شيء وأن يكون ملبّياً لطموحات شعوب المنطقة شيء آخر.
يجب القول، بادئ ذي بدء، إن تأكيد غيتس على البقاء المديد «عندنا» لا يخالف توصيات اللجنة. فهي تطالب بذلك وتقرنه بأمور أخرى لم يقل الوزير الجديد ما يخالفها ولو أن البيت الأبيض يتحفّظ عليها.
غيتس «الواقعي»، مثل بيكر وهاملتون الواقعيين، ينظر إلى الخليج فيراه نفطاً. ولعلّ واقعيته لا تعني سوى أن على الولايات المتحدة ضمان مصالحها في هذه المنطقة من دون إثارة اضطرابات كثيرة تحت شعارات نشر الديموقراطية. ربما كانت الديموقراطية على تناقض مع تأمين هذه المصالح. لا بل إن الديموقراطية هي، بالتأكيد، على تناقض مع هذه المصالح كما جرى تحقيقها حتى الآن.
لنعد بعض الشيء إلى تقرير بيكر ـــ هاملتون. ولنتوقّف عند أربع توصيات فيه لم تأخذ حقها الكافي من العرض في الإعلام.
تقول الفقرة 26 «مراجعة الدستور العراقي أمر أساسي لتحقيق المصالحة الوطنية ويجب أن يتم ذلك في شكل عاجل، والأمم المتحدة لديها خبرة في هذا المجال ويجب أن تؤدّي دوراً في هذه العملية». المطلوب، إذاً، تعديل الدستور.
تقول الفقرة 28 تحت عنوان تقاسم العائدات النفطية «يجب أن تذهب عائدات النفط إلى الحكومة المركزية ويتم اقتسامها على أساس عدد السكان». المطلوب، إذاً، تعديل الدستور لهذه الناحية حيث إن بنوده تميّز بين النفط المكتشف وذلك الذي قد يُكتشف.
تقول الفقرة 62 «يجب على الحكومة الأميركية، وفي أقرب وقت، توفير المساعدة التقنية للحكومة العراقية، للتحضير لقانون نفط عراقي يحدّد حقوق الحكومات الإقليمية والمحلية». الأمم المتحدة تساعد في الدستور، أما قانون النفط فاحتكار أميركي. وبالفعل ثمة شركة خاصة أميركية عيّنها بوش منذ أشهر وهي عاملة بدأب على إصدار قانون جديد.
تقول الفقرة 63، وهي بيت القصيد، «على الولايات المتحدة تشجيع الاستثمار في قطاع النفط في العراق من خلال المجتمع الدولي وشركات النفط الدولية. وعلى الولايات المتحدة مساعدة القادة العراقيين على إعادة تنظيم صناعة النفط المحلية على أساس أنها مؤسسة تجارية بهدف تعزيز الفعالية والشفافية والصدقيّة. وعلى الولايات المتحدة تقديم المساعدة التقنية إلى وزارة النفط لتعزيز الصيانة، تحسين عملية الدفع، إدارة دفق الأموال، التعاقد والتدقيق، تجديد برامج التدريب في الإدارة والأجهزة التقنية». هذا هو الموضوع: خصخصة شاملة لقطاع النفط وتحويله إلى مؤسسة تجارية ووضعه بالكامل في عهدة الولايات المتحدة وشركائها.
ليس غريباً، والحالة هذه، أن يرد في الصفحة الأولى من تقرير بيكر ـــ هاملتون التذكير بأن «العراق يملك ثاني احتياط نفطي مكتشف في العالم».
ليس في الأمر أي جديد. فمنذ ما قبل الغزو والهيئات الرسمية الأميركية تعلن أن من إنجازاتها اللاحقة، بعد الاحتلال، فتح قطاع النفط للشركات الأجنبية. وفي سياق الغزو أصدرت مراكز أبحاث يمينية عديدة دراسات ترفع لواء الخصخصة وبينها «مؤسسة هيريتادج» التي تضم في عضويتها إدمون ميس الذي هو، بالمصادفة، عضو في لجنة بيكر ـــ هاملتون.
بيكر نفسه إضافة إلى العضو الآخر إيغلبرغر من أبرز المتعاطين الأميركيين بشؤون النفط عامة وشؤون نفط العراق خاصة. وقد أدّيا دوراً محورياً في ذلك أيام رونالد ريغان، الأول وزيراً للمال والثاني نائباً لوزير خارجية. وإذا كان الاثنان تحمّسا لضرب العراق في المرة الأولى فذلك لأنه دخل إلى الكويت مهدداً مصادر الطاقة والإمدادات. لقد قالا ذلك علناً ولم يثرثرا كثيراً عن الديموقراطية وضرورة نشرها في الشرق الأوسط الكبير.
ما لم يذكره غيتس بوضوح هو أن الوجود العسكري الأميركي في الخليج باقٍ ما دام النفط باقياً، أي إلى عقود. وإذا كانت حماية هذه المصلحة الاستراتيجية الأميركية قد تراجعت إلى الخلف لتداخلها مع أهداف أخرى فإن «الواقعيين» يحاولون إعادة السياسة الأميركية إلى المربع الأول: الخليج يعني النفط، أما طبيعة الأنظمة السياسية فرهن بالقدرة على تأمين هذا الهدف.