فراس زبيب
لم تصل الحرب الأخيرة الى بيروت. الصواريخ القليلة التي أطلقت من الطائرات الحربية الاسرائيلية على بعض مناطق العاصمة، ومنها المرفأ والمنارة والأشرفية، لم تبدُ للموجودين في بيروت اقرب من تلك التي اطلقت مراراً على منطقة الضاحية الجنوبيـــة.
كنا، حين نسمع دوي هذه الانفجارات، نخال أنها حصلت هناك، في الضاحية. كأننا كنا لا نستنتج من صوتها إلا بُعدها عنا. وكنا، حين نعرف من نشرات الأخبار أنّها ألقيت على مناطق بيروتية، يتــــلاشى خوفنا، كأن اعتيادنا دوي قصف الضاحية جعلنا نسجن مخيلة الموت والدمار هناك، ونسجن انفسنا هنا، في بيروت، بعيداً عن القصف والموت والدمار.
لم تصل الحرب الى بيروت. كنا، حين نستيقظ في منتصف الليل على دوي الانفجارات، نطمئن انفسنا، ويطمئن بعضنا بعضاً بأن نقول: «إنّها في الضاحية».
ثم كنا ننام، هكذا، على صوت موت الآخرين ودمارهم.
لم تصل الحرب الى بيروت، ونهايتها لم تصل إليها أيضاً.
فبينما المناطق التي اصيبت مباشرة جرّاء الحرب الاخيرة دخلت في مرحلة ما بعد الحرب، بقيت بيروت، التي لم تصـــــل المعـــــارك اليهـــــــــا، عالقة في مرحلة الحرب وحالتها.
لم تدخـــــل الجرافــــات الى بيـــــروت كما دخلت الى ضاحيتها، لتزيل الركام بسرعة كأنها تنهي الحرب بمحو آثارها. لم يعد الى بيروت مهجّروها ليتفقدوا بيوتهم، وليبحثوا بين انقاضها عن اشياء كانت لهم ولم تعــــد.
لم تنتشر في بيروت لافتات النصر أيضاً، التي ملأت الجنوب والضاحية، ولم يشعر أهل بيروت بأن انتهاء الحرب هو بداية لما بعدها...
بيروت التي لم تصل الحرب اليها، بدت عالقة فيها. كأن نهاية الحرب، اذا لم تكن بداية لشيء آخر يوازي بضخامته الحرب نفسها، تتأخر أكثر، في الوصول الى الناس، وإلى مدينتهم.
اهل الضاحية شُغلوا، مثل اهل الجنوب، بنهاية الحرب. فحياتهم، منذ توقف الاعمال الحربية، كانت مليئة بالأحداث والمفاجآت واللحظات القوية. هؤلاء، الذين حصلت الحرب على اراضيهم، وهدّمت بيوتهم خلال غيابهم عنها، وقتلت جيرانهم وأقرباءهم الذين بقوا فيها، هؤلاء يعيشون، منذ وقف النار، حرباً ثانيــــة.
اهل الضاحية لم تنته حربهم. أو أن نهايتها كانت بداية لمرحلتها الأخرى، الثانية.
عودتهم الى أحيائهم كانت بمثابة الابتعاد عن حياتهم في تلك الاحياء. عادوا ليكتشفوا أن الحياة التي كانوا يعيشونها انتهت. وهم بدوا قادرين على الانتقال منها، مباشرة وبمساعدة تعويضات حزب الله، الى حياة اخرى.
نهاية الحرب لم تكن، في بيروت، بهذا الوضوح وبهذه الصراحة. فالبيروتيون لم يجدوا في نهاية الحرب بداية لشيء آخر. حتى إنها لم تكن بداية العودة الى حياة ما قبل الحرب، وتكملتها.
لم تصحُ بيروت من الحرب الاخيرة بعد، كأن أهلها الذين هجروها خلال العدوان أفقدوها توازنها، أو كأن أهلها الذين بقوا، لم يستعيدوا بعد قدرتهم ورغبتهم بإحيائها.
ما فقدته بيروت اثناء الحرب على لبنان لم تعوضه نهايتها إذاً. لم يعد من الحياة الطبيعية الى العاصمة الا القليل القليل منها.
الأحياء التي كانت تعجّ بالساهرين قبل الحرب، تنتظر اليوم ساهريها الذين لا يأتون. شارع الحمراء يبدو حزيناً كل ليلة، والمترددون على مقاهيه ومطاعمه يبدون صامتين، كأنهم باتوا يخجلون من الفرح والسهر. عجقة شارع الحمراء باتت بكماء، كأنها عجقة ناس نراهم من بعيد، فلا نسمع ضجيجهم.
الحياة في بيروت لم تنطلق بعد. لا تزال الشوارع تخلو من السيارات والمارّة بمجرد أن تنتهي فترات العمل اليومية. لا تزال الاحاديث في البيوت والمقاهي تدور حول الحروب والسفر، والحروب والدمار، والسياسة والحروب.
الحياة خجولة في بيروت منذ نهاية الحرب، كأنها تنتظر شيئاً. كأن الحرب تركت خلفها مناطق مهدّمة تصبو الى الحياة، ومناطق اخرى ماتت ولم تُهدم.