ملتقى بيروت للرقص دورة النضج والخصوبةبيار أبي صعب
في الأيّام الأخيرة من «ملتقى بيروت للرقص المعاصر»، تبدو الرؤية جليّة، والحصاد وفيراً، والمشهد ملوّناً وغنيّاً... ومع تعدد التجارب وتنوّعها، وخصوصاً مع نضجها التقني والجمالي والفكري، بات بالإمكان الحديث ــــ دونما تردد أو خوف من المبالغة ــــ عن حركة حقيقيّة في العالم العربي، مشرقاً ومغرباً، تنتمي إلى الرقص المعاصر، وتضيف إليه بصماتها وأسئلتها... ولا شك في أن عرض التونسي رضوان المؤدّب «أحدهم سيرقص»، من اللحظات المهمّة التي ستبقى في ذاكرة المهرجان. رضوان الممثّل الذي انتقل إلى الرقص ذات يوم مع نوال اسكندراني، يعود بسولو تفكيكي يدور حول الجسد والذاكرة. كثير من الجمود والحركات اليوميّة، في قالب أقرب إلى parodie التي تسائل الرقص نفسه، بقدر ما تضع جسد الفنّان وهويّته الجنسيّة أمام الهاوية، وفي مواجهة التحدّي. كثيراً ما يدير رضوان ظهره إلى الجمهور، في سعيه إلى التقاط تلك الوجوه الأليفة التي وقفت قبله في الدوامة: داليدا وماريا كالاس وأم كلثوم. العمل الذي يعتمد على بنية درامتورجيّة وإضاءة متينة، مهدى إلى أبيه الذي بلغه نبأ رحيله إلى بيروت. فسافر لحضور الجنازة في تونس، وعاد في اليوم التالي ليقدّم عرضه ويقف وحده وسط ذلك الفراغ، مرّة أخيرة.
بين الاكتشافات الأساسيّة هذا العام هناك العراقي مهنّد رشيد المقيم حالياً في هولندا مع فرقته «أجساد عراقيّة». عمله «دمع أمّي» يضع الجسد الأعزل، العاري، في مواجهة العنف. وحده مع الحركات والانفعالات المؤسلبة. يرقص إلى جانب دريد عبّاس وعمّار السماوي ذاكرتهم التي تختزن صور العنف والموت. سجادة حمراء تختصر هذا العالم الممزّق الذي يحتضن أجساد الضحايا. وتشابك الأعضاء والخسارات يؤسلب الموت على إيقاع الطبول والدفوف وآلات النفخ، في ظلام كثيف يغلّف الرؤيا الأبوكاليبتيّةنصيرة بلعزّة عادت إلى بيروت بعرض جديد لعلّه الأقوى في مسيرتها، وكانت قدّمت هنا بدعوة من «مقامات» وعمر راجح عملها السابق «عام مضى». «صرخة» الذي ترقصه مع أختها دليلة تحفة فنيّة، فيه تُواصِل الفنّانة الجزائريّة (فرنسا)، شغلها على الفراغ والرتابة والتكرار... لكنّ المعادلة هذه المرّة تبلغ تمامها. جسدان بلباس موحّد، يدوران مكانهما في الفراغ، يرقصان في الزمان. مفردات قليلة، وحركات مكررة إلى ما لا نهاية تأخذك إلى حالة من الامحاء والخدر والنشوة. الشريط الصوتي يزاوج الجاز بالإنشاد الصوفي والأوبرا. لكن الإيقاع الراقص نفسه، مقسّم إلى زمنين، وخاضع لوتيرة تصاعديّة متسارعة، كما في الطقوس الصوفيّة.
جسد يتهادى، يترنّح، يتمايل كرقّاص ساعة يدور على نفسه. وذراعان تطوفان في الفضاء كما في رقصات الدراويش، قبل أن يعودا إلى الواقع الدنيوي. في العمل السابق خرجت الراقصتان من شاشة فيديو أرضيّتها امتداد لخشبة المسرح. هذه المرّة اختفت الأختان، لتواصل أطيافهما المتكاثرة الرقص على الشاشة. لغة الأعماق، رقصة الاحتجاج والانعتاق والانصهار. صرخة امرأة عربيّة مسلمة في مهبّ العصر؟ صرخة صامتة ومتقشّفة تحيل إلى لوحة إدوارد مونخ الشهيرة بالعنوان نفسه. جماليّة فجّة في كلّ الأحوال، وجسد يطفو على سطح المصادفات، انطلاقاً من نقطة جوهريّة واحدة، تعيدنا مينيماليّتها إلى «فازة» رائعة آن تيريزا دو كيرسماكير.
BIPOD 09 كان أخيراً فرصة لمشاهدة نواة عمل مديره ومؤسسه، وهو مشروع قيد التطوّر بعنوان «اغتيال عمر راجح». مع كل عمل جديد يفاجئنا راجح بابتكاراته وجرأته، ويأخذنا إلى مرحلة مختلفة. هذه المرّة يقف فوق أرضيّة جديدة تماماً، إذ يسائل فنّه وجدواه في مواجهة العنف والاغتيال السياسي للصحافيين. يشتغل عمر بعناية على الصورة، والإطار المسرحي لرؤياه الكوريغرافيّة (بمعاونة فارتان أفاكيان وسامر يحيى ونانسي اسكندر وجويل ريّان). جدار العمق وأضواؤه، البروجكتور الأبيض المسلّط من العمق في اتجاه الخشبة، الأكسسوارات القليلة: أبرزها الكنبة الحمراء والضوء المثلّث الذي ينتقل بين أرجاء المكان. هناك أيضاً نجيب شرّادي (وشم) الفنّان المغربي الذي يغنّي من دون مرافقة تسابيحه الصوفيّة ـــ الوثنيّة في حضرة الموت.
وسط هذا الطقس الجنائزي الذي يكسره عمر راجح بلحظات طبيعيّة ومباشرة (مثل الميكسر الذي يصنع به كوكتيلاً من عصير الفاكهة في البداية)، يترك للراقصين أن يجسّدوا حالات التفكك والتلاشي، عبر الحركات المتوتّرة، والتعاطي الحسّي مع الأجساد، والأصوات الطلسميّة، والحروف المبعثرة المتطايرة على شاشة من دخان في مقدّمة المسرح... ورقصات السولو اليائسة أو الغاضبة أو الميكانيكيّة (عمر نفسه، ليزات شحادة، علي شحرور) التي تنتظم في مشهد جنائزي هاذ. هناك أيضاً وأساساً ميا حبيس الملاك المنكسر الباحث عن توازنه وليونته، وأحمد غصين الذي يأخذها إلى رقصة الموت. يستعيد عمر جبران تويني وسمير قصير، ويسأل عن جدوى الفنّ في مواجهة مجتمع طائفي ممزّق... عرضه يرقص الفاجعة، ويلتفّ عليها، ويأخذنا في دوّامتها اللانهائيّة.