المعروف عن الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز ارتباطهما الوثيق على رغم الفروق الشاسعة بينهما من حيث الجذور والنمط والخطوط العريضة التي تميّز كلاً منهما. اشتهرت في القرن العشرين أسماء كبيرة من عالم الموسيقى الكلاسيكية كتبت مقطوعات جاز أيضاً، مثل الروسي شوستاكوفيتش والأميركي غرشوين. واشتهر عازفو موسيقى كلاسيكية كانت لهم التفاتة إلى موسيقى الجاز. فيما انتقل بعضهم نهائياً إلى الجاز بعد بداية كلاسيكية، كعازف البيانو الفرنسي جاك لوسييه الذي اشتهر بتناوله «الجازي» لأعمال باخ وشوبان ورافيل وغيرهم.
في هذا السياق، تمثّل تجربة كيث جاريت مع الموسيقى الكلاسيكية ظاهرة بحد ذاتها، ولا سيما أنّها تميّزت بالانفصال التام عن الجاز. لقد خاض غمارها محترماً قواعدها الصارمة. يعود ذلك إلى ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، عندما فاجأ جاريت جمهوره بإصدارات خصصها لأعمال موزار (مجموعة من كونشيرتوهات البيانو والأوركسترا) وباخ. وانتقل مع الأخير من البيانو إلى الكلافسان، فعزف أعمالاً كُتبت لهذه الآلة أصلاً، ولو أنّ العادة درجت على عزفها على البيانو. من هذه الأعمال تنويعات غولدبرغ، والمتتاليات الفرنسية والعمل المرجعي الذي عنونه باخ Le Clavier Bien Tempéré (بكتابيه الأول والثاني)، إضافةً إلى النسخة الروسية لهذا العمل أي الـ Preludes and Fugues 24 لشوستاكوفيتش وأعمال لهانديل، ومؤلفات موسيقيين معاصرين أبرزهم Fratres للمؤلف الإستوني المتصوّف آرفو بارت وغيرهم...
أما هذه الازدواجية في شخصية كيث جاريت الموسيقية فتحضر أصداؤها موحدةً في ارتجالاته الطويلة على آلة البيانو حيث يساعده تمكّنه الكلي من آلته ومن التقنيات الجازيّة والكلاسيكية من ترجمة آنية سريعة ومتقنة لأفكاره الموسيقية. وهي عملية تأليف موسيقية لا يفصل الوقت فيها بين كتابة الجمل وعزفها، ويعتبر جاريت من أكثر العارفين بأسرارها في عالم الموسيقى اليوم. أما تجربته في التأليف على قواعد كلاسيكية فتعود إلى عام 1973 مع ألبوم In The Light وتمتد إلى عام 1993 مع آخر تجربة له في هذا المجال Bridge Of Light، وتخلّلت هذه الفترة محاولات عدة اعتمد فيها جاريت تركيبات ذهبت من الكتابة لآلة منفردة، إلى الأعمال الأوركسترالية.