نجوان درويش
«كأنّه ملعبٌ لكرةِ القدم/ بين منتخبين لعائلةٍ واحدة. شيءٌ يذكِّر بالنّهايات/ في مسرحٍ تابعٍ للقطاعِ العامّ (ليس عندنا سوى قطاعِ غزة) الممثّلون من الذين رسَبوا في امتحاناتِ معهدِ التّمثيلِ العالي»؛ تلك قصيدة بعنوان «وطن» من مجموعة وليد الشيخ الجديدة «أن تكون صغيراً ولا تصدّق ذلك» (منشورات أوغاريت ــــ رام الله). لا يتعلق الأمر هنا «بما يجري» في غزة أو بالحرب السوريالية بين الإخوة. ولا يقصد الشاعر بالضرورة منتخبي فتح وحماس. إنها مكاشفات الشعر وقدرته على قول الأشياء دفعةً واحدةً.
يستمر وليد الشيخ (1968) من خلال هذه المجموعة، في تطوير ما قدّمه عبر عمليه «حيث لا شجر» (1999) و«الضحك متروك على المصاطب» (2003). منطقته هي قصيدة السيرة اليومية التي تمزج ملامح صاحبها بملامح المكان. تهكّم عال، وسرد لوقائع ومشاهدات وتفريغ لذاكرة شبقة ومخيّلة ماجنة لا تنفك تنسج قصصاً. إلى درجة تبدو المجموعة سيرةً جنسية! وإن شئنا الدقة فهي سيرة بثلاثة محاور: الحبّ الحسي: «صياحُ نساءٍ وحيدات/ خلفَ رائحةِ الذّكورة»، والعائلة: «أنا أعرف أن العائلة متواضعة حد الشفقة»، والمكان العام الذي يُدعى الوطن حيث يقدّم الشاعر صورته العارية من اللغة الفولكلورية التي تتستر عليه تاريخياً.
وعلى رغم أن الشيخ يكتب قصيدة نثر تنأى عن آفات الشعر العربي، أي الافتتان بالبلاغة لذاتها والمزاج الزجلي؛ إلا أنّ قصيدته تميل نحو الغنائية، وخصوصاً حين يكون موضوعها الأنثى. عندها يذهب إلى نبرة رعوية لا نجدها في بقية القصائد: «غرفتُها سريران منفصلان/ تركضُ الشّهوة بينهما مثل أولاد الصفّ الأول/ كتفُ المليحة أيضاً/ سهلٌ للخبز/ واللذة / والترانيم. أصابعها عيدانُ ناي/ خاصرتها تلالٌ متروكةٌ لرائحة الفانيلا». ترصد قصيدة الشيخ تآكل المكان الفلسطيني من خلال «مسرح» هو حياة الشاعر ومشاهداته بين رام الله وبيت لحم (تآكل المكان هو أيضاً تآكل الفكرة). صور من البلدتين «رام الله اقتراح أعمى» نراها بمعالم ما بعد «أوسلو» وقد صارت «مدينة». وبيت لحم وقد أصبحت «مخيماً» بعد بناء الجدار وفصلها عن القدس وانحسار فضائها الحضري.
يرصد صاحب «حيث لا شجر» حياة شجرة أخيرة من شبّاك مكتب «حقوق المواطن» حيث يستقبل (الشاعر المتخفي في إهاب رجل قانون) شكاوى مواطنين ضيمت حقوقهم: «شجرةُ رمّانٍ بلهاءُ في الحديقة/ فقيرة مثل أولادِ المخيّم في الخمسينات/ مرتبكة مثل عيدِ الحبِّ لمقاتلين من البوليساريو/ عشبٌ يتحرّش بأغصانها/ ماعز الرّيفِ الشرقيّ يهتِكُ عِرضَها يوميّاً/ لا شرطة/ لا لجنة آدابٍ عامّة/ ولا شبكة المنظّمات الأهلية/ ولا أولاد حلالٍ يرفعون الضّيم». الشجرة هنا استعارة عن الحياة الفلسطينية بأكملها. كل فرد هنا هو ذاكرة شجرة مفردة. مدينة تتريّف أو ريف يتفشى في مدينة ويثأر منها.. وليد الشيخ «لم يكن يحلمُ بأكثر من بيت
لحم».