strong>لكل مكان هويّته وتاريخه وإرثه الثقافي، وهي عناصر مهددة دائماً بخطر الضياع بفعل تطورات الحياة إن لم يتم التخطيط والعمل للمحافظة عليها. في بنت جبيل، كان لتطور الأحداث دور في المحافظة على تاريخ المدينة. فقد عزلها الاحتلال الإسرائيلي لعقدين من الزمن عن الحياة الصاخبة، فأخّر التطور العمراني فيها، مما أدى إلى المحافظة على إرثها التاريخي والعمراني. وكان ذلك في زمن سبق «معركة بنت جبيل» وقبل الغارات والقصف المدفعي الإسرائيلي للمدينة. وخاصة لأجزائها القديمة.

جوان فرشخ بجالي

المشهد اليوم مغاير تماماً لصورة بنت جبيل قبل العدوان. صارت أحياؤها القديمة كمدن الأشباح التي هجرتها الكائنات الحية. ما من كلمات تصف حجم الدمار، إنه يفوق الخيال. والمتجول بين الأبنية يخشى أن يكون بطلاً لفيلم رعب. أيمن، البالغ من العمر 11 عاماً، لم يستطع أن يحدد مكان بيته. لقد دمر الإسرائيليون الشارع الذي شيّد فيه، ولم يعد الفتى يعرف مدينته. فقد سرقت منها الحرب الكثير، وصارت صور بيوتها وحاراتها جزءاً من ذاكرته وماضيه، وحتى هويته. فهو ابن بنت جبيل، وتاريخه من تاريخها. والمعضلة التي يعيشها أيمن وغيره من سكان المدينة تطرح على طاولة إعادة إعمار المدينة. وهنا السؤال الملحّ: كيف ستتم عملية إعادة البناء والترميم مع المحافظة على شكل المدينة وهويّتها، مع الإشارة إلى أن دولة قطر كانت قد تكفّلت إعادة بناء هذه المدينةولفت علي بدوي (من المديرية العامة للآثار) إلى أن محادثات بدأت في هذا الإطار، وشارك فيها استشاري هندسي لبناني والهدف “إطلاق ورشة العمل حينما تحدد الدولة اللبنانية الآلية النهائية لتقبّل الهبات».
وتخوّف بدوي من أمرين، “الأول هو أن تبدأ عملية رفع الأنقاض قبل وضع مخطط توجيهي لتحديد الشكل الذي ستأخذه إعادة الإعمار، والثاني يتمثّل في عمليات البناء الفردي التي تشكل خطراً إذا غابت ضوابط للتنظيم المدني في هذه المدينة». فليس هناك من تحديد لعلوّ المباني أو عدد الطبقات، وإلى ما هنالك.
الجدير بالذكر أيضاً، غياب الدراسات التاريخية لمدينة بنت جبيل، فلا مسح أثرياً وتراثيّاً لأبنيتها القديمة على رغم فرادتها في لبنان. ويقول بدوي “إنها أقرب بشكلها الهندسي وزخرفاتهاالحجرية إلى مدن فلسطين وسوريا منها إلى مدن الشاطئ اللبناني». ويبرر عدم إنجاز المسح الأثري للمدينة التي عادت الى سيادة الدولة منذ أكثر من ست سنوات «بقلّة الإمكانات المتوافرة لدى المديرية العامة للآثار وصعوبة تمويل مشاريع الدراسات، ويؤكد أن «المديرية حاولت دفع الجامعات الى إنجاز بعض من هذه الدراسات، وكانت المشاريع قيد التحضير قبل وقوع الحرب».
وكانت لهذه العوامل نتيجة واحدة وهي أن بنت جبيل مدينة تاريخة من دون دراسة أو مسح لتحديد أهمية الأبنية والأحياء، الأمر الذي يجعل عملية إعادة البناء أكثر صعوبة وتعقيداً، إلا أن المحادثات جارية بين مختلف الأطراف والفعاليات السياسية في المنطقة. وقد أنشأت البلدية لجنة مختصة لمتابعة حيثيات هذا الملف.
ويؤكد ابن البلدة الكاتب بلال شرارة «أن دمار بنت جبيل هو جزء من تاريخها، فهي عاصمة المقاومة منذ أكثر من قرن. وفي كل الحروب التي خاضتها حاول العدو تدميرها، إلا أنها كانت تعيد بناء ما دمر. ولن يختلف الأمر اليوم. فحرب تموز شرف لبنت جبيل التي أوجعت العدو كثيراً، فأغرقها بالقـــــنابل العـــــنقودية التي أطلقها، حتى المقــابر فدمّر أبنيـــــتها». ولأن المـــــقاومة جزء من تاريخ بنت جبيل، يجب ألا يؤدي هذا الدمار الى تحقيق الهدف الإسرائيلي من قصفها: تدميرها، تغيير معالمها، وتبديل هويتها.