قيصر الجميّل (1898- 1958)، مصطفى فروخ (1901- 1957)، عمر الأنسي (1901- 1969) وصليبا الدويهي (1912- 1994)، أربعة روّاد كلاسيكيين كبار جمعهم معرض استعاديّ مميّز لأعمالهم في «قاعة الشيخ زايد» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» (LAU)، من تنظيم طوني كرم، وبمساعدة مجموعة من الفنانين الذين أسهموا في جمع لوحات هؤلاء الروّاد من أماكن متفرّقة. تنبع أهميّة المعرض من توقيت إقامته في زمن طغيان تيّارات الحداثة، ومن أنّ أعمال هؤلاء الكبار ليست في متناول الذوّاقة والمهتمّين، ولا إمكانية لمشاهدتها والاطّلاع على قيمتها وفرادتها إلاّ ضمن معرض استعاديّ جامع من هذا النوع.
قيصر الجميل ـ «كرنفال» (زيت على كانفاس ـ 46 × 70 سنتم)

‏هذا المعرض القيّم والجميل الذي ضمّ أعمال أربعة فنانين ينتمون زمنياً إلى النصف الأول من القرن العشرين الفائت، كشف لنا قوّة إبداعهم الذي تأثّر ولم يقلّد، فهم أبناء جيل تشبّع من الحركة التشكيليّة الأوروبية المزدهرة في ذاك الزمن وتماهى مع إنجازاتها ومدارسها واتجاهاتها المختلفة، لكنّه بقي محتفظاً بهويّته اللبنانية تحديداً، والشرقيّة عموماً، ممهّداً بكلاسيكيته لمرحلة الحداثة التي تلت في الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ. علماً ‫أنّ ثمة تباينات وفرادات أسلوبيّة لدى الروّاد الأربعة، وذاتيّات تميّز كلّاً منهم عن الآخرين.
إشارة ضروريّة، بدءاً، إلى أن محترف الرائد الأوّل حبيب سرور (1860- 1938)، كان مقصداً للرسامين، فهو أوّل من أسّس مدرسة مدّت الحركة الفنية في لبنان بأسماء لامعة، وبينهم الروّاد الأربعة موضوع هذا المعرض، فضلاً عن رشيد وهبي (1917- 1993). تلقّنوا من حبيب سرور أصول تشكيل الخطوط قبل الانتقال إلى مرحلة اللون. لم يقتصر تأثيره على تلاميذه فحسب، بل طاول جيلاً كاملاً، إذ كان ذا طبيعة استكشافية غطّت مواضيعه مختلف مظاهر الحياة اللبنانية، من عاداتٍ وتقاليد.
نمرّ تباعاً أمام اللوحات التي شملها هذا المعرض الاستعاديّ الجماعيّ، فنتوقّف أمام لوحات قيصر الجميّل (مواليد عين التفاحة المتنيّة الشمالية) وتلفتنا، مثلاً لا حصراً، لوحتا «كرنفال» و«سيدتان»، فالمعروف أنّ الجميّل لم يرسم امرأة (موديلاً حيّاً) إلاّ وأمست أيقونةً للجمال الأنثوي. وقد اشتهرت له لوحات العري التي تنطوي على إبداع وجرأة. جريئاً كان قيصر الجميل، قياساً بالجوّ المحافظ الذي كان سائداً في المجتمع اللبنانيّ. حفّزه على هذه الجرأة كونه آتياً من دراسة باريسية في «أكاديمية جوليان»، وفي تلك المرحلة افتُتِنَ بأعمال الانطباعيّ المعلّم رينوار (1841 ـ 1919). تخطّى الجميّل الأكاديميّة والرسم «على الطلب» الذي كان شائعاً لدى أسلافه، إلى رسم المنظر الطبيعيّ والمرأة العارية، والطبيعة الصامتة. اتّسمت أعماله في مرحلة الدراسة بالتجريب، وكان قد مرّ، قبل المرحلة الباريسية، بمحترف الرسام خليل صليبي أواخر العشرينيات. رسم الحياة مثلما عاشها وأحبّها، بمختلف تجلّياتها، هو المولود وسط الطبيعة عند تلّة مرتفعة (يُعرف منزله الكبير اليوم بـ«القيصريّة» نسبة إلى اسمه الأول) مشرفةً على جارة قريته الصغيرة، بكفيا. ومن هنا كان ولعه برسم الطبيعة بالأسلوب الانطباعيّ الذاتيّ، مثل هيامه بالنساء اللواتي طاب له رسمهنّ عاريات، والله أعلم!

صليبا الدويهي ـ «دكّان الضيعة» (زيت على كانفاس ـــ 76 × 60 سنتم)


مصطفى فرّوخ ـ «منظر من المتن» (زيت على كانفاس ـــ 42 × 62 سنتم)

ننتقل في زيارتنا إلى أعمال مصطفى فرّوخ (مواليد بيروت)، ونتوقّف أمام لوحتيه «الحاج يعقوب» و«منظر من المتن» بين أعمال أخرى، فنوقن كم خلّد فرّوخ في أعماله الطبيعة اللبنانية وحوّلها إلى أيقونات طبيعيّة يُستعان بها في مناسبات متنوّعة. هذا الرسّام الفذّ درس الفن في روما عام 1924، ونال ديبلوماً من الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة. ثم انتقل إلى باريس صيف 1926 حيث التقى النحّات اللبناني الرائد يوسف الحويّك. وعلى إثر عودته إلى بيروت، أنشأ محترفه في سوق أيّاس منكبّاً على الرسم وعلى «اللوحات الوطنية» في تلك الفترة. ورغم صغر مساحة محترفه، إلاّ أنّه كان يتّسع لنخبة من الفنانين والمثقفين، وقد حالت تربية فرّوخ الفنية والجمالية على الفنون الكلاسيكيّة في أكاديمية روما بينه وبين تقبّل ما تمخّض عنه المجتمع الصناعي في فرنسا من مفاهيم حداثيّة معاصرة تعكس النظام الرأسمالي وحركة العرض والطلب في السوق الفنية. توقّف في فنّه لاحقاً عند حدود الانطباعية، انسجاماً مع ذاته وقناعاته، ولم يحرق المراحل مثلما فعل عدد من الفنانين بعده ممن استهوتهم تيّارات الحداثة، فبالغوا في تقليدها ونقلها (تلك كانت في أيّ حال وجهة نظره آنذاك). لم يستوعب فرّوخ موجة الحداثة الصاخبة.
إلى فنان العزلة في الطبيعة عمر الأنسي (مواليد بيروت) الذي لم يغادر محترفه في تلّة الخيّاط سوى للانتقال الى مواقع طبيعية بعيدة عن العاصمة، بحثاً عن منظر تخطفه ألوانه إليه، كان انطباعيّاً من دون انطباعية، أي أنّه لم يُخضِع لوحاته للتقنيات الخاصة بالتيار الانطباعيّ. نتسمّر في المعرض أمام لوحتين لمنظرين طبيعيين: أحدهما في لبنان، والآخر في جبل الدروز في سوريا. عُرف عن الأنسي أنّه فنان مرهف شكّلت مائياته علامة مميّزة في تاريخ الفن التشكيلي اللبناني. اختار بلدة ميروبا في أعالي كسروان ليمضي فيها فصل الصيف، فالبلدة الجميلة هذه تنعم بمزايا طبيعية تلائم عين الأنسي ومزاجه ضوءاً ولوناً. انطباعيته راسخة في منابعها الشرقية، من خلال ملمح الواقعية وتقنية الضربة المائية، تاركاً للضوء أنّ ينساب إلى لوحته بارتياح، ما جعله في أربعينيّات القرن الماضي رائد اللوحة المائية في لبنان بامتياز. ورغم أن عمر الأنسي قام برحلة طويلة إلى الأردن عام 1922 حيث رسم في صحرائها غزلاناً وبدويات طوال خمس سنوات، إلاّ أنّ ميروبا هي التي أشبعت حلمه ورسّخت تجربته المائية، فبقي يلوذ بها صيفاً وينهل من طبيعتها البكر، بعيداً عن ضوضاء بيروت التي كان يعود إليها شتاءً.
ختام الجولة في المعرض الجميل كان أمام لوحات صليبا الدويهي (مواليد إهدن) الذي تتلمذ على يد حبيب سرور قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة في باريس، عام 1932، ويعود إلى بيروت بعد أربع سنوات، بل إلى بلدته ذات الطبيعة الآسرة التي استلهم مناظرها ومعالمها العمرانية والشعبية وأسواقها القديمة وتاريخها لمعظم أعماله.
«مكتشفو» الجمال بصيغته اللبنانية، بدأ معهم عصر الروائع التي تنتمي إلى الحياة المباشرة

نقف، مثلاً، مليّاً أمام لوحات له مثل «مشهد من إهدن» و«دكان الضيعة» و«باب قديم»، فنُبهر للجمال والإبداع والحب. مع العلم أنّ الدويهي رسم من وحي تاريخ المنطقة الشمالية معارك وقعت بين يوسف بك كرم الإهدنيّ والجيش التركيّ. كما أوكل إليه تزيين كنيسة الديمان البطريركيّة بلوحات جداريّة ذات طابع تاريخيّ وجماليّ. تتضمّن سيرته رحلة إلى أميركا حيث كان اطّلاعه على محتويات المتاحف المعاصرة، موقناً أنّ له اهتماماً آخر غير الرسم هو البحث والتعمّق في المعرفة الفنية.
في الخلاصة التاريخيّة، يمكن القول إنّ التيّار الانطباعيّ اللبنانيّ متمثّل في مثلّث فنّي شاعريّ قوامه مصطفى فرّوخ وعمر الأنسي وقيصر الجميّل، فهم بمثابة الأركان، أو الأعمدة، التي ارتكزت إليها عمارة الغنائيّة التشكيلية للمنظر اللبنانيّ المشغول بقدر هائل من الشاعريّة المرهفة، وبالتنبّه إلى الدور الذي يلعبه النور في توزيع الألوان وإعادة صوغها. إنّهم رواد من الجيل الذي شرّع الأبواب لمغامرة الحداثة والتجريد الغنائي. خرجوا إلى الطبيعة لينتجوا لوحة خارج المحترف، وبموادّ لم تكن معتمدة سابقاً. إنّهم «مكتشفو» الجمال بصيغته اللبنانية، وانتهى معهم عصر الروائع الكلاسيكية ليبدأ عصر الروائع التي تنتمي إلى الحياة المباشرة. يُطلق عليهم الجيل الثالث من الرسامين اللبنانيين الذي أخرج اللوحة من إطارها المتحفيّ (الذي أسّس له داود قرم) إلى الحياة.