قبل أيام، رحل الأديب الفرنسي فيليب سولارس (1936 ـــ 2023) وتركنا مع الفيلسوف نيتشه والطالبة مود والمُحلّلة النفسية نورا والفيلسوف هيغيل وغاردينير عاشق باخ. مات الكاتب وعاشت الشخصيات التي تعكس بمعظمها روحية سولرز. على مدى 46 سنة من الكتابة المتواصلة، خلق الروائي الراحل عالماً أدبياً سيُبقيه راسخاً في المخيّلة الجماعية، إذ إن المسافة الفاصلة بينه وبين بعض شخصياته جدّ ضئيلة أو شبه معدومة في بعض الروايات. اختفت المسافة بين الكاتب والشخصية حين تغلغل سولرز داخل كيان الفيلسوف هيغيل في روايته «حركة» (Mouvement) الصادرة عام 2016. في هذا العمل الأدبي اللافت بعمقه الفكري، وضع سولارس نفسه في أحذية هيغيل في بعض المقتطفات، كما اعتبر هيغيل نفسه سولارس في بعض فصول الرواية في سياق ديناميكية سردية رائعة. هكذا، اختلطت شخصيتَي الكاتب والفيلسوف إلى درجة تبنّيهما النظرة نفسها إلى العالم. لقد ارتبط اختيار هذا الفيلسوف كشخصية روائية بالبُعد الأيديولوجي والسياسي الذي طغى على حياة الكاتب الراحل. وكان فيليب سولارس قد عبّر عن اهتمامه بالماركسية منذ عام 1966، وانتسب لاحقاً إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، كذلك برزت أفكاره الماوية من خلال كتاباته في مجلة «تال كال» (Tel quel) التي كان من مؤسّسيها. لقد عايش سولارس الفوران الفكري في باريس الستينيات والسبعينيات، وأسهم في نشر أعمال نقّاد ومفكرين أمثال جاك دريدا وجاك لاكان، ولوي ألتوسير، ورولان بارت.
برز البُعد الفكري العميق في أجمل رواية لسولارس «حياة إلهية» (Une vie divine ـــ صادرة عام 2005) التي تتناول الفيلسوف نيتشه. نعرض في هذا الإطار مقتطفاً من هذا العمل الأدبي المميّز: «من الممكن أن أميل مجدّداً إلى الأوراق، والسهرات الطويلة في ضوء المصباح، وبواكير الصباحات الزرقاء، هناك، على الجسر العائم، مقهى فوق مقهى، مياه عذبة، عصفور دوري ناقراً السّكر حتى على طاولتي، هدير المياه، سُفن. حسناً، أشعر أنّها تعاودني، تلك الرعشة في نخاعي الشوكي، معجزة». تبرز جمالية الصور الشعرية في هذه الكلمات التي تتالت حتى بلوغ النشوة الفكرية. من الورقة إلى السهرات، ومن الصباحات إلى الجسر، تتراكم العبارات بوتيرة متصاعدة لتتكلّل بحالة من الغبطة تنتاب كل مفكّر، وشاعر ومتأمّل بالوجود.
لم يكتف سولارس بتبنّي وجهة نظر هيغيل التي أسّست للفكر الماركسي، إنما اعتمد أيضاً نظرة هذا الفيلسوف إلى الفن الموسيقي. كان هيغيل قد تناول التداخل بين الحياة الداخلية والموسيقى رابطاً إيّاها بالطابع الروحاني الخاص بالفن الرومانسي. تجلّت هذه الأفكار في رواية «حركة» من خلال شخصية غاردينير الذي اكتسب عشقه للمؤلّف الموسيقي باخ طابعاً مقدّساً: «في نهاية المطاف لست ملاكاً. أستمع إلى باخ الهرِم إلى ما لا نهاية. هو يقودني». قال غاردينير. وعبّر سولارس عن الشغف بالموسيقى من خلال لغة مفكّكة تمازجت فيها الصوَر والأفكار خاصة في رواية «مركز» (Centre) الصادرة عام 2018، وظهر كذلك من خلال أسلوبه الموسيقي: «أجول إذاً نحو العدم موسيقياً»، و«موسيقى الخيوط أكثر غرابةً من موسيقى الدوائر. الله غير موجود، وإن كان موجوداً فهو لن يكون موسيقياً».
هكذا، برز في كتابات سولارس العزف على أوتار الحياة الداخلية من خلال الموسيقى وكذلك من خلال الغوص في أعماق الإنسان بفضل علم النفس. تجلّى ذلك بوضوح في رواية «مركز» حيث يرد قوله: «أنت جسد ناطق، أنت تحلم، لا تدرك فعلاً ما تقول، تحيي مساحات النسيان على حسابك. تَمدَّد وأخبرني ما يجول في رأسك». وقد طغى البُعد النفسي على الرواية، إذ إنّ سولارس اختار المُحلّلة النفسية نورا بطلة لقصته. تعيش نورا البالغة أربعين عاماً علاقة حب مع كاتب يهتم بنظريات فرويد ولاكان. وصف الروائي العشق الذي يجمعهما بعبارة «حلمٌ يدوم». قد يكون مصدر وحي سولارس حياته الخاصّة، إذ إنّه تزوّج عام 1967 من الفيلسوفة والمحلّلة النفسية جوليا كريستافا. أما في روايته «نجمة العشّاق» (l’étoile des amants) الصادرة عام 2002، فقد عرض سولارس علاقة عاطفية تجمع كاتباً بالطالبة مود على جزيرة معزولة. وقد عبّر سولارس في هذا العمل عن الرغبة في الابتعاد عن الناس الذين يتسلّلون حتى إلى الأحلام لفرض وجودهم على مستويَي الوعي واللاوعي.
أشار بُروز شخصية الكاتب في روايتَي «نجمة العشّاق» و«مركز» إلى رغبة سولارس بتحويل نفسه إلى شخصية خيالية يُخبر من خلالها علاقته بالكتابة. هكذا عبَّر عن عشقه للكتابة من ضمن القصّة نفسها، وظهر ذلك في المقتطف التالي من «نجمة العشّاق»: «الآن تبلغ الشمس الصفحة، تنزلق يدي، أكتب بريشة الظلّ، وجنتي وصدغي اليساريان يدونان حركة الظّهر البطيئة. تظهرين بين السّطور، لستِ خيالية إنما حقيقية». ثم يُضيف: «أدوّن الإحساس الحيّ». لقد شكّلت هذه الشخصيات مرآة حال سولارس، وصف من خلالها علاقته بشخصيته الخيالية التي أبصرت النور بين سطوره وتأرجحت بين الواقع والخيال. يمكننا أخيراً القول بأنّ الارتباط الوطيد الذي جمع الراحل بعالمه الأدبي قد جعله أبدياً. بالفعل، لقد اكتسب سولارس شيئاً من طابع شخصياته السرمدي، فبقي رغم رحيله.