تفتقرُ الموسيقى والغناء العربيان إلى التناول التاريخي المعني بتطورات الفنّ، مُشتبكاً مع السياقات السياسية والاجتماعية. إذ إنّ تناول موسيقي أو فنّان له حضور مركزي في ذاكرة الموسيقى والغناء العربيين، يكون عادةً في إطار محدود، وينحصر في ألق الاحتفاء وذكر معلومات حول حياته، من دون تقديم مادة قائمة على منهج بحثي، لموضعة الشخصية الفنّية في إطار عمومي ضمن تطورّات تُقدّم رؤيةً شاملة للمرحلة ككل. في كتابها الجديد «كل دا كان ليه» (دار ديوان ــ صمّم الغلاف الفنان أحمد اللباد)، تُقدّم الفنانة والباحثة المصرية فيروز كراوية مادة بحثيةً عن الموسيقى والغناء العربيين، بشكل أكثر تركيباً من ثنائيّة الاحتفاء والكشف. يُعيد الكتاب السؤال حول الإرث الموسيقي العربي وتنوّع تشكّلاته منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اللحظة الراهنة.

تُقدّم فيروز كراوية مادة بحثيةً عن الموسيقى والغناء العربيين منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اللحظة الراهنة

في مُقدّمة الكتاب، يتساءل الناقد الأدبي والموسيقي فادي العبد الله حول آليات تحقيق «الصدارة» في الأغنية: هل هي نسبة العوائد والحصة المرتفعة من السوق؟ ليس ذلك ضرورياً، لأنّ عوائد أغنيات المهرجانات والراب حالياً ــ رغم شعبيتها ــ ليست مرتفعة، لكنها تخضع لآليات تربّح أخرى مثل عوائد المُشاهدات على يوتيوب. إن لم تكن نسبة العوائد، ربما يُمكننا التساؤل عن التفوّق والإجادة والمهارة الفنّية، هل هذا مقياس الصدارة؟ لا يمكن الجزم بأنّ عبد الحليم حافظ، أو أم كلثوم، كاظم الساهر، أحمد عدوية، وكل أعلام أزمنتهم، كانوا الأفضل والأكثر جودة ومهارة. حتى جانب مُواءمة السلطة والغِناء في كنفها وبمباركتها، ليس قياساً أيضاً، فلدينا علامات غنائية باركت مشاريع سياسية مثل أم كلثوم، وعلامات غنائية شكّلت المقاومة والمُعارضة حضورها أيضاً.
لا يأتي صراع «الصدارة» في الأغنية العربية من بُعد واحد، أو حتى من خلال آليات مُحدّدة وفاعلة، وإنما يتحقق فعل البقاء خلال حيثيات مُتعددة، لعلّ أهمّها التوافق مع معايير السياق الزمني والمتطلبات السوقية على اختلافها، أو ربما مُقاومتها تماماً.
تعملُ فيروز، في كتابها، على توسيع المساحة التي يُمكن أن تُقرأ الموسيقى من خلالها، كمادة فنّية ونشاط ثقافي تربطه علاقة تبادل مع المُجتمع ومحطّاته السياسية و«كوداته» الأخلاقية. لذلك، فإنّ القراءة السوسيولوجية لمختلف أزمنة الكتاب، تجعلُ من مسار تتبّع أشكال موسيقية وفنانين/ فنانات لهم/ لهنّ حضور كبير في ذاكرة الموسيقى العربية، مسارات بحثية جديدة تُقدّم صورة عن علاقات مراكز القُوى، السياسية والدينية والشعبية، ومتى يُمكنها استدعاء أداة الوصم المُعتادة، وهي إفساد الذوق العام، أو متى يُمكنها مُباركة مشروع. إضافة لذلك، ثمّة تتبّع محوري لعلاقة الزمن في تكوين المسيرة الغنائية، فمن كان شعبي في زمانه يدفعه الزمن ليصير رمزاً موسيقياً، أو دلالة على تطوّر هام في الموسيقى والغناء العربيين.
من جانب النوع، يقدّم الكتاب صورةً تاريخية حول الموسيقى والغناء العربيين وتتابع أشكالهما الحديثة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، إذ انقسمت الفنانات وقتها إلى نوعين: «العالمات» في بيوت الأرستقراطية العُليا، مع ضرورة أن يكنّ ملمّات بالمقامات الشرقية، ويتقنّ العزف على آلة موسيقية، بينما «الغازيات» هنّ فنانات الموالد والمقاهي والعروض الشعبية. الفارق الذي حضر بين النوعين المذكورين، يُظهر تقديم «الكود» المجتمعي الأخلاقي لفئة على أخرى. وبسبب ظهور الأجانب في مصر، واعتياد الغازيات خوض علاقات معهم لأجل التربّح، تعرّضن لعنف جسدي، ولم تنتبه لهنّ المنظومة الإدارية الغائبة.
كان طرفا الغناء الأنثوي يشكلان عاملاً مركزياً في خلق صورة فنّية في الشارع المصري مطلع القرن العشرين. انتشرت الصالات الليلية، التي شغّلتها الراقصات والمُطربات على حدة في إطار مُحافظ قدر الإمكان لضمان عدم التعرّض للكود الأخلاقي المُجتمعي. إلا أن انتشار فن «الطقطوقة» بكلماتها التي لا تخلو من بُعد جنسي، اصطدم بالمؤسسة الأخلاقية في المجتمع. وفي عام 1926، هوجم الشيخ محمد يونس القاضي كاتب أغنيات الطقطوقة، وعلت الأصوات بفرض الرقابة على الأغنيات. من مساحة الوصم، استحالت الطقطوقة الغنائية على يد سيد درويش إلى مادة للمقاومة بسبب اكتسابها مسحة الوطنية. ومن تحت عباءة سيد درويش، خرجت أجيال كوّنت صورةً مركزيةً لتطورات الأغنية المصرية والعربية، غناءً وكتابةً وتأليفاً، على يد زكريا أحمد والقصبجي والسنباطي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأحمد رامي.
التحوّلات المذكورة في هذه المرحلة، المعنيّة بوجود علاقة مُباشرة مع البُعد القيمي للأغنية الوطنية، بسبب الاحتلال، ومن ثم الاشتباك مع الصعود السياسي للضباط الأحرار ودخول الأغنية وما يعنيها من صراعات البقاء والرضى أو النبذ، تُشير إلى أنّ لا قاعدة تضمنُ البقاء للمنتج الفنّي أو الثقافي، لأن المُنتج ذاته دائم التغير، وكذلك حيثيات مُحيطه، وعادة ما تكون هذه التغيرات مؤثرة في موازين القُوى، ومتأثرة بها في آليات الإنتاج والاستقبال، إضافةً إلى أنّ «الطبقة الشعبية» التي تُعتبر أداة هامة في حضور المُنتج، هي طبقة ملغّمة، لا يُمكن التنبؤ بقواعد استقبالها ضمن إطار مُحدد.
لذلك، كان سيد درويش فنّان الشعب بسبب بُعد الوطنية والمقاومة في أغنيته، واكتسبت أم كلثوم ــ في أيامها الأخيرة ـ الصفة نفسها، رغم أنها انتمت أكثر إلى الفن النيو-كلاسيكي. هذه المواءمة مع السلطة، من قِبل الجيل الذي بارك النظام السياسي ضمن مُنتجه الموسيقي ــ وبُحكم تنوّع حيثيات الصدارة دائماً ـــ لم تنج من الحاكمية الأخلاقية للمُجتمع، التي كانت – خلال النظام الناصري- جزءاً من مؤسسته خلال أوائل حُكمه. خرج سيد قطب في مجلة «الرسالة» مُهاجماً الفن، باعتبار أنّه يهدم بناء المجتمع المصري ويحطّم الخلق ومعالم الرجولة، إضافة إلى دُخول الأزهر كُسلطة مُمتدة من المؤسسة الحاكمة، معنيّة بالضبط الأخلاقي، تبنّت خطابها أسماء مثل سيد سابق ومحمد الغزالي وكمال الدين حسين، مُحاولين التربّص بأي مُنتج يخرج عن السياق الديني أو «الأخلاقي» في الفن أو الأدب.
استحالت الطقطوقة على يد سيد درويش مادةً للمقاومة


في سياق مُمتد، يعرض الكتاب تحوّلات الأغنية العربية بعد خروجها من السياق المؤسسي، أو حين توافرت لديها آليات العمل بعيداً عن ضرورة الإدراج ضمن صوت السُلطة. خلال مرحلة السبعينيات، وبحُكم انفتاح العالم العربي على الموسيقى العالمية أكثر، وظهور فئة شبابية مُتأثرة بالصعود الأميركي للأغنية، ظهرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية فرق موسيقية مثل «الميادين» (مارسيل خليفة)، وزياد رحباني الذي أعاد إنتاج تُراثه الفنّي العائلي بصيغٍ موسيقية أكثر مُعاصرة وتأثراً بالموسيقى الغربية، مع الاستعانة بالبُعد المحلّي في المسرح الغنائي.
لم يكُن ذلك الميلاد وليد المصادفة بطبيعة الحال، بل امتداد لتشكّلات ظهور للأغنية الناقدة للسلطة، مثل الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم سابقاً في مصر، ومن ثم انفتاح السوق المصري على الأغنية الشعبية على يد أحمد عدوية.
في لبنان، ظهرت لاحقاً جوليا بطرس، جامعةً بين البُعد العاطفي والسياسي في أغنياتها، بينما شهدت فلسطين ظهور فرقة «صابرين» على يد سعيد مُراد وكاميليا جبران، في مُحاولة لتقديم أغنية معاصرة مُتطورة آتية من قلب المحلّي، تُعيد النظر في التراث الفلسطيني. مروراً بالتحوّلات التي مرّت على الأغنية المصرية والعربية وأيقوناتها الغنائية، من محمد منير إلى حميد الشاعري، وعمرو دياب وكاظم الساهر وحيّز المناورة الأنثوية في أغنيات نانسي عجرم وكليبّاتها، قدّمت فيروز كراوية صورة جامعة لهذه التطورات، بادئة في كل محطة من السياق المُجتمعي وآليات اشتباك الأغنية معه، تارةً تُراوغه وأخرى تنبطح لمرجعيّاته لأجل البقاء.
في اللحظة الراهنة، يبدو أن تحوّلات الصدارة للأغنية العربية تغيّرت كثيراً، بحُكم التغير السياسي الحاصل في السنوات العشر الأخيرة، ودخول عامل الإنترنت كمادة فاعلة في الصدارة. لكن رغم مركزية حضورها، خلقت حالةً من اللهاث نحو إرضاء الآخر، أو مُهاجمته لاستعادة الحضور على الساحة مرّة أخرى، لتُصبح الموسيقى، مثلما تختتم فيروز كتابها «عُملة في رصيد أكبر، عليه أن يبنيه بوسائل وحيل مُتعددة، تضعه على قائمة الإحصائيات الرقمية لمُتصدّري التريند».