اثنان وأربعون عاماً مرّت منذ أن وضع هاريسون فورد قبّعته البنّية الأيقونية وسوطه والابتسامة المتردّدة للمرة الأولى في فيلم «سارقو التابوت الضائع» (1981)، ما أسهم في ولادة إحدى أكثر الشخصيات المحبوبة والمشهورة في تاريخ السينما. صنع ستيفن سبيلبيرغ كلاسيكية خالدة في هذا الفيلم وهذه الشخصية، ولو لم يتمكن من تجاوز العتبة العالية التي ثبتها الجزء الأول من السلسلة. سبيلبيرغ برفقة أستاذنا المفضّل في علم الآثار، أكملا المغامرة في أفلام «إنديانا جونز ومعبد الموت» (1984)، و«إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة» (1989). آخر مرة قابلنا فيها الشخصية كانت قبل 15 عاماً في فيلم «إنديانا جونز ومملكة الجمجمة الكريستالية» (2008). على الرغم من اللحظات الجيدة التي طبعت الشريط، إلا أنّه كان الجزء الأضعف في السلسلة. واليوم، يعود إنديانا جونز إلى السينما، لكن هذه العودة ليست عادية، إذ إنّها قد تنبئ النهاية، بالوداع الأخير للشخصية. صحيح أنّ الوداعات تكون عادة مليئة بالحزن، إلا أنّ عرض فيلم «إنديانا جونز وساعة القدر» (2023) في الصالات، هو بمثابة حفلة تتم دعوة الجميع لحضورها.لم يعد ستيفن سبيلبيرغ وراء الكاميرا، جنباً إلى جنب جورج لوكاس مبتكر شخصية جونز. لقد أصبحا منتجين منفذين للفيلم، وجيمس مانغولد هو المخرج الآن («لوغان»/ 2017، «فورد ضد فيراري»/ 2019). مع الحيوية الجديدة وراء الكاميرا، وعودة هاريسون فورد الذي سيبلغ 81 عاماً في 13 تموز (يوليو)، وانضمام فيبي والر بريدج كشريكة في المغامرة، ومادس كيكلسن كشرير، وجون ويليامز بموسيقاه الأسطورية، بدا أنّ كل شيء مضمون لتقديم فيلم لا يُنسى. لكنّه في النهاية، تبين أنه كان أقل إقناعاً، وانتهت المغامرة بشكل مخيّب للآمال بعض الشيء. فـ «إنديانا جونز وساعة القدر» مكتوب بكسل أو باستعجال، وبقدر ما هو مسلّ بقدر ما هو سخيف في بعض الأحيان. صحيح أنّ مانغولد نجح في استحضار أفضل لحظات الأجزاء الأربعة السابقة، لكنه افتقد إلى «ولدنة» سبيلبيرغ. ها نحن هنا مرة أخرى، نشاهد فيلماً يواصل تذكيرنا بما كانت عليه الأفلام السابقة. يجعلنا نفكّر كيف كنّا حينها، وكيف كانت السينما والعالم، كيف كان صانعو السينما متهورين، وكيف أنّه بفضل سبيلبيرغ، أراد الشباب دراسة الآثار بعد الخروج من السينما. لكن من المؤسف أنه لم يعطنا هذا الشعور على مدار الفيلم بأكمله، لأن القصّة كانت لديها إمكانية لإرضائنا من البداية إلى النهاية. بدلاً من ذلك شاهدنا مغامرة عادية لجونز، بشكل لا يجعلك غاضباً من الفيلم، لكن لا يمكنك أن تحبّه بما يكفي. الشيء المؤكد هو جون ويليامز الذي أنقذ العديد من المشاهد بفضل موسيقاه، فإعادة توزيع لحنه الأسطوري وهو في الحادية والتسعين هو إنجاز ضخم، نحييه ونحيي فورد الذي اعتمر قبعته للمرة الخامسة والأخيرة، وودّع دوره بشكل لائق.
يبدأ الفيلم بطريقة مشوّقة جداً ضمن مقدمة تراوح مدتها من 15 إلى 20 دقيقة. نحصل على مشهد حماسي وممتع، يحارب فيه إنديانا جونز أعداءه المفضلين: النازيون. نبدأ في عام 1944، على مشارف انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى قطار يحمل فيه النازيون مئات الكنوز المسروقة، و«آنتيكيثيرا» (ساعة أرخميدس الشمسية)، الآلة التي صمّمها العالم اليوناني في القرن الثالث قبل الميلاد. يُقال إن أي شخص يحصل عليها، سيصبح إلهاً، إذ تسمح له الساعة بالسيطرة على قوى الزمان والمكان، والعودة بالزمن إلى الوراء. تمكّن جونز وصديقه بازل شوّ (توبي جونز) من الحصول على الآلة، أو بالأحرى نصفها من العالم النازي الدكتور فولر (مادس ميكلسون). ثم فجأة نجد أنفسنا في حاضر الفيلم، وهو عام 1969 في نيويورك، حيث جونز في السبعين من عمره، شبه متقاعد يُدرّس في «كلية هنتر». في ذلك الوقت، كانت أميركا تعيش حالة من الهيجان بسبب عودة روّاد «أبولو 11» للتوّ من القمر. لا أحد يهتم بالآثار بعد الآن، لم يعد الناس يرغبون في النظر إلى الماضي. ظهور هيلينا (فيبي والر بريدج)، يُعيد الحياة لجونز، هي ابنة رفيقه بازل، وهو والدها الروحي لم يرها منذ 18 عاماً. تطلب هيلينا المساعدة من إندي للعثور على النصف الثاني من الساعة. بالطبع، فولر لم يمت، بل هو الآن عالم فيزياء يحمل اسم شميث، ساعد وكالة الفضاء الأميركية في الوصول إلى القمر. شميث أيضاً يريد الساعة لأنه مقتنع بأنّه يمكنها إعادة كتابة التاريخ والعودة بالزمن لتحقيق النصر للنازيين في الحرب. تبدأ المغامرة من مانهاتن إلى طنجة فاليونان وصقلية، وتحمل العديد من المفاجآت والمطاردات في الهواء وتحت الماء وفي الكهوف التي يحبها إندي.
يعمل فيلم مانغولد على الحنين كملجأ في البداية، فإحياء إنديانا جونز الشاب في بداية الفيلم بفضل المؤثرات الخاصة لتصغير السن، فكرة جيدة في نقاط معينة، عندما لا يضطر جونز للحركة كثيراً. ولكن بمجرد أن يبدأ الحركة، يظهر كمشوّه ويصبح التأثير العام غير طبيعي. ولكن هذا لم يؤثر كثيراً على الزخم الذي يبدأ به الفيلم. بعد أن نذهب إلى الستينيات، يبدأ الشريط بالانحدار نحو الوسطية، وتظهر شخصيات مملة بدون دوافع مقنعة. القصة طويلة أيضاً، فهي لا تحتوي على أحداث ذات مغزى، وغالباً ما تصبح بسيطة أو معقدة، وفوق كل هذا نحصل على أشرار لا يمكن أخذهم على محمل الجد. للأسف تم إهدار موهبة مادس ميكلسن في الفيلم، فهو لم يحظَ بلحظات تستحق الذكر، أو تفاعلات مثيرة مع الشخصيات، ولم يُعط الكثير من الوقت ليكون تهديداً حقيقياً. وكذلك، يصعب تصنيف شخصية هيلينا التي لا يعرف الفيلم حقاً ما يفعل بها رغم أنّها البطلة الثانوية. حتى إنّ الشخصية الإسبانية التي يلعب دورها أنطونيو بانديراس هذه المرة كصديق جونز البحار، تم إظهارها وإخفاؤها من دون أن تقدم أي شيء بعكس الأفلام السابقة. تم بالفعل استحضار مشهد الكهف من فيلم «سارقو التابوت الضائع»، لكنه بدلاً من أن يكون جزءاً لا يتجزأ من مشكلة يجب حلها، تدخله الشخصيات وتخرج من دون أي إثارة جذابة، وتظهر الحشرات الذي يخاف منها جونز لفترة صغيرة ثم تختفي. من ناحية أخرى، فإن التصوير لا يصل إلى جودة الصور الأسطورية لدوغلاس سلوكومب.
تجمع القصة الجديدة كل العناصر الناجحة التي طبعت أفلام السلسلة، حتى إنّ المخرج تمكن من توسيع حدود خياله وحقّق توازناً بين المبالغة والمعقول. لا يزال جونز يتمتع بالسحر والكاريزما والسخرية، يضرب بالسوط ويركل ويطلق النار. الشيء الذي نفتقده في الجزء الجديد هو اللمسة الكئيبة والمظلمة والتجريبية للأجزاء السابقة، تلك الذي برع فيها سبيلبيرغ ولوكاس. «إنديانا جونز وساعة القدر» أكثر تقليديةً واصطناعاً وأقل سحراً، مخطّط بدون الكثير من السحر والانسيابية، ويفتقر بشكل مؤلم إلى النزعة الطفولية لسبيلبيرغ.
يفتقد الجزء الجديد اللمسة الكئيبة والمظلمة والتجريبية للأجزاء السابقة


يبذل «إنديانا جونز وساعة القدر» قصارى جهده لاستحضار الصغير الذي في داخلك، لا يفقد البصر عن حقيقة أننا في زمن مختلف تماماً لكنه يسمح لنفسه بالنظر إلى الوراء لبناء قصة وصورة لكل ما يحبّه المعجبون في البطل. آخر مغامرة لإنديانا جونز تتقدم بوتيرة قديمة جديدة نحو الوجهة النهائية، ولا تزال تعامل أحد أشهر الأبطال باحترام. إذا فكرنا بالأمر قليلاً، مع ما يحصل في السينما الحالية اليوم وموجة الأبطال الخارقين، نستطيع أن نقول إننا خرجنا بوداع لائق لهذه الشخصية، فهاريسون فورد هو إنديانا جونز ولم يتم استبداله، ولم يتم تدمير الفيلم بالنكات التافهة، وهو الشرط الإلزامي في هوليوود اليوم في أفلام مماثلة، بل حافظ جونز على روح الدعابة الخفيفة المحببة. وأخيراً والأهم أن الجزء الجديد لم يتعثّر ولم يقدّم نهاية غير لائقة تجعلنا ننظر إلى الكلاسيكية بعيون مختلفة. مع ذلك، أقنعنا العمل بأنّه لا يوجد اليوم أحد ممن يستطيع أن يروي قصصاً مماثلة كما كان يفعل المخرجون في الماضي، والجيل الجديد مع أفلام الأبطال الخارقين، لم يعد متحمّساً لشخصيات ومغامرات مثل إنديانا جونز، وهذا مؤسف.
الأهم من هذا كله، أنه ما زلنا نستطيع الاحتفاظ بطفولتنا خلال «إنديانا جونز وساعة القدر». ما زلنا قادرين على استحضار ذلك الصبي الصغير ذي العينين المتلألئتين، الذي يحدق بالشاشة بفم مفتوح ويعض أظافره العشرة خلال مغامرات هذا البطل الخالد. الفيلم هو لأولئك الذين كانوا محظوظين بمقابلة ابتسامة إنديانا جونز المشاغبة للمرة الأولى على شاشة السينما، ولأولئك الذين تعرفوا على أستاذ الآثار الثائر عبر أشرطة الفيديو القديمة في التسعينيات. لذا، لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من الابتسام أثناء مشاهدة الفيلم. تم توزيع الصفعات واللكمات، وتناثرت الرصاصات، وصدح السوط، وكل ما كنا نأمله هو انفجار، شيء ينفجر، وتدوي موسيقى جون ويليامز من جديد لتجعلنا نحبّ إندي مرة أخرى.

* Indiana Jones and the Dial of Destiny في الصالات