على وقع التظاهرات التي تجتاح شوارع ومدن العاصمة الفرنسية هذه الأيام، عادت إلى الأذهان «كومونة باريس» التي حدثت قبل قرن ونصف القرن، ممهّدةً للثورات الاشتراكيّة والماركسيّة، وملهمةً جميع المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية خلال العقود التالية. للتذكير، فإنّ «كومونة باريس» (La Commune de Paris) حكومة ثوريّة قامت بعد انتفاضة عمال وفقراء باريس ضد السلطة عام 1871 عقب خسارة نابليون الثالث الحرب مع بروسيا، ودخول الجيش البروسي المذلّ إلى باريس بعد حصارها خمسة أشهر. للأسف، قُمعت هذه الثورة بوحشية من قبل الحكومة الملكيّة التي شُكِّلت لتوقيع معاهدة السلام مع الألمان، وراح ضحيتها الآلاف من المواطنين من رجال ونساء وأطفال. لكن ما كان موقف الأدباء والفنانين من الكومونة؟
باريس بعد أحداث الكومونة ــ 1871

مِن المُخزي حقاً أن نعرف أنّ معظم الأدباء الفرنسيين، حتى أولئك الذين ينتمون لليسار (بتعريف اليوم)، اتخذوا موقفاً سلبياً من الكومونة وأدانوها بقوة. في كتابه «الكتّاب ضد كومونة باريس» (1970) الذي أعيد إصداره بطبعة جديدة أخيراً، يُظهر الباحث الفرنسي بول ليدسكي وثائق تثبت الموقف المُعادي للنخبة الفكريّة والأدبيّة للثورة الباريسيّة، باستثناء الموقف الشجاع للشاعرين بول فيرلين وأرتور رامبو (هذا سبب إضافي لنحب قصائدهما)، والموقف المتحفظ والمحايد الملحوظ الذي اتخذه فيكتور هوغو في بداية الثورة، قبل أن يعود ويستنكر بقوة القمع الوحشي للمتمردين في ديوانه «السنة الرهيبة» (1872). الغريب أنّ بعض المؤلفين المؤيدين للمبادئ الجمهورية مثل إميل زولا وجورج صاند وألفونس دوديه، اتخذوا موقفاً معارضاً للشعب. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى التناقض الواضح بين البورجوازيّة الفكريّة والطبقة الكادحة، إذ إنّ مواقف الأدباء عكست انتماءهم الطبقي ودفاعهم عن امتيازاتهم ضد الفقراء الذين ثاروا للمطالبة بحقوقهم السياسيّة والاجتماعيّة.
يُقدّم ليدسكي تفسيراً منطقياً لهذه المواقف، مستخدماً نهجاً يتمتع بالجُرأة والأصالة، فيعود إلى ثورة فبراير 1848 لشرح ردّة فعل الكتّاب تجاه أحداث كومونة باريس. يؤكد أنّ الانفصال الفعلي بين المثقفين وطبقات العمال، يعود إلى تلك الفترة التي قادت إلى تأسيس الجمهورية الثانية الفرنسية والامبراطورية الثانية في ما بعد. في الواقع، لقد انخرط الأدباء أمثال لامارتين، جورج صاند، فيكتور هوغو، الفرد دي فينيي، وفلوبير بحماس في ثورة عام 1848، ونزلوا إلى الشوارع وترشّح بعضهم للانتخابات. مع ذلك، تبيّن أن تواصل النخبة الفكرية مع الجماهير كان مخيباً للآمال، إذ اعتقد معظم الأدباء أنّه يكفي أن يذهبوا إلى الشعب ويخبروه الحقيقة، حتى تسود حكومة الجمال والخير والعدالة. لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، وهذا ما أثبتته النتائج السيئة التي حققها فينيي ولامارتين في الانتخابات. من هنا بدأ هؤلاء الأدباء بالشعور بالاشمئزاز من العمل السياسي والابتعاد عن الجماهير التي اعتبروها غبيّة وتافهة ولا تعرف مصلحتها. هكذا عاد أدباء فرنسا إلى برجهم العاجيّ، وروّجوا لنظرية «الفن للفن». لاحقاً، عملت الامبراطورية الثانية على ترويضهم تدريجاً ـــ باستثناء فيكتور هوغو ـــ وتوسيع الهوّة بينهم وبين الشعب. أصبح هؤلاء الكتّاب، بعد عشرين عاماً على حكم نابليون الثالث، مستنفدين ومحافظين. لذا شعروا بالرعب من هذه الثورة الشعبية التي تُهدد مكانتهم الاجتماعية ومكتسباتهم. بالرغم من انتقاد معظم هؤلاء المؤلفين لصورة البورجوازي في أدبهم، لكنّهم كانوا فعلياً يستهدفون تلك الشخصية الماديّة الانتهازية والفارغة ثقافياً، لا النظام الاقتصادي البورجوازي القائم على حماية المُلكية الخاصّة.

وحده بول فيرلين من بين قلّة ناصرت الثورة

اتخذ الكُتّاب الأرستقراطيون والمحافظون أمثال فلوبير، تيوفيل غوتييه، ماكسيم دو كامب موقفاً قاسيّاً من الكومونة، واعتبروا الثوار مجموعة لصوص وهمج وحيوانات متوحشة فلتوا من عِقالها واحتلّوا المدينة، وزرعوا فيها الفوضى مستغلّين غضب الباريسيين من حصار العاصمة، وقد طالب معظم هؤلاء بقمع الثورة بعنف. أما الفئة الأخرى المؤلفة من الأدباء المؤيدين للجمهورية وذوي التوجه اليساري أمثال أناتول فرانس، لوكونت دو ليل، جورج صاند وإميل زولا، فكانوا أكثر ميلاً لإجراء مصالحة بين «قصر فرساي» والثوّار، لكنّهم عارضوا الكومونة ورفضوا اعتبارها حركة ثورية حقوقية اجتماعية. رأوا أنّ مطالب الكومونة تتعارض مع أفكارهم المستنيرة عن الجمهورية، وفسّروا اندلاعها بأسباب ماديّة بحتة كطول مدّة الحصار والمجاعة التي انتشرت في المدينة. بيّنت مقالات زولا العائدة إلى تلك الفترة موقفه الرافض للكومونة ووصفه لقادتها بالمجانين، كما أنه عاد وأدانها بشدّة في روايته «الكارثة» التي صدرت عام 1892. صحيح أنّ صاحب مقال «أنا اتهم» تأثر بالمشاهد الدمويّة لقمع المحتجين، وناضل في ما بعد مع فيكتور هوغو لإصدار عفو عام عن المشاركين فيها، لكنه أظهر ردّة فعل أوليّة لكاتب بورجوازي خائف على ممتلكاته ومكتسباته. لقد عمل معظم هؤلاء الأدباء على خلق صورة سلبيّة عن الكومونة في رواياتهم، حيث جرى تصوير الثُّوار كلصوص وحُثالة بشرية وعمال سيئين ورجال عديمي الأخلاق ونساء مبتذلات، علماً أنّ السيدات لعبن دوراً بطولياً في هذه الثورة واستشهدت كثيرات منهن. وهذا يظهر بوضوح في روايات زولا وأناتول فرانس وألفونس دوديه وغيرهم.
بيّنت مقالات زولا العائدة إلى تلك الفترة، موقفه الرافض للكومونة ووصفه قادَتها بالمجانين


من جهة أخرى، كان موقف التّشكيليين مختلفاً جداً لأنّهم أقل فرديّة ونرجسيّة من نظرائهم الأدباء. في 13 نيسان (أبريل) 1871، دعا الرسّام غوستاف كوربيه الفنانين إلى القاعة الكبرى في مدرسة الطب، فاستجاب أكثر من 400 فنان للدعوة وأسّسوا اتحاد الفنانين. شارك العديد منهم في حماية المتاحف الوطنية أثناء فترة الاضطرابات. كما انضم بعض الفنانين إلى الحرس الوطني للدفاع عن باريس ضد الجيش البروسي، وواصلوا البقاء هناك خلال أحداث الكومونة. وعندما سُحقت الكومونة بقسوة، تمّت معاقبة الفنانين الثائرين ونُفي كثيرون منهم وتمّ ترحيلهم إلى كاليدونيا الجديدة، واعتُقل آخرون وزجّوا في السجون. كما عانى هؤلاء الفنانون لسنوات من منع عرض لوحاتهم في المعارض، وتوقفوا عن تلقي طلبات العمل من الدولة (أمر حيوي بالنسبة إلى النحاتين). استمرت معاناة الفنانين المؤيدين للكومونة لغاية إصدار عفو عام سنة 1880، لكن لم يستطع كثيرون النهوض من جديد فسقطوا في غياهب النسيان.
حاولت فرنسا الخجلة من هذا التاريخ الدمويّ إبقاء صفحة الكومونة طي الكتمان طوال قرن كامل، وعدم ذكرها بوضوح في مناهجها الدراسيّة. لكن هذه الثورة البطوليّة لم تمت، وقد حيّاها ماركس بحماسة واعتبرها مرحلة تراجيديّة لكن ضروريّة للوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا. واليوم، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، ما زالت كومونة باريس بشهدائها، بثوريتها العنيفة والرومانسيّة، وببلورتها الراديكاليّة للصراع الطبقيّ قادرة على إلهام ثورات جديدة في فرنسا وفي كلّ مكان.