يرتبط اسم عارف الريّس (1928 -2005) بمرحلة روّاد الحداثة في المحترف التشكيليّ اللبناني. انطلاقاً من موقعه هذا، يقدّم «معهد فالنسيا للفن الحديث» (Valencia d›Art Modern /IVAM) في مدينة فالنسيا الإسبانية، معرضاً استعاديّاً لأعماله يستمرّ حتى العاشر من أيلول (سبتمبر)، تقديراً لهذا الفنان الرائد، الذي أنجز مساراً إبداعيّاً ممتدّاً من جبل لبنان إلى العالمية. ‏عارف الريّس المولود في عاليه عام 1928، أقام معرضه الأول في بيروت في سنّ العشرين، لتنطلق مسيرته المتميّزة رسماً ونحتاً وليتوغرافيا، وليصبح أحد رموز الفن اللبناني والعربي ورائداً ينتمي إلى رعيل الستينيّات، زمن كان العالم العربيّ يغلي بالتطورات والتطلّعات السياسية والوطنية والثقافية. من هنا كان اهتمام الريّس بالسياسة وبحركات التحرّر العربيّة (الجزائر مثلاً)، فبات يُحسب على فئة الفنانين الملتزمين والمناضلين للقضايا العربية والعالمية المحقّة. بين التجارب التصويرية المشهورة للفنان الراحل، تأتي مجموعته التي تحمل عنوان «رؤى من العالم الثالث» وهي رؤيته البصرية للتحرّر الوطني وثورات العالم الثالث والحركات الوطنية الملهمة، من أميركا اللاتينية إلى فلسطين وغيرهما من البلدان التي كانت لا تزال في معترك التحرّر في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. خصّ وطنه بالعديد من الأعمال التي ترسم خريطة السياسة والفن والمجتمع اللبناني.

حطم أسطورة «العيب» في لوحات المرأة المومس (عن مؤسسة عارف الريس)

لا يمكن الفصل بين سلوك عارف الريس الشخصي وأعماله التي تعددت مراحلها وتكثّفت حيناً وشفّت أحياناً. في باريس، بدأت محاولاته التجريدية الأولى، حيث التحق بمعهد الفنون الجميلة، ثم تركه بعد شهر لينتسب إلى «المحترف الحر» للفنان فرنان بيجيه، ومنه انتقل إلى محترفات أندريه لوت وهنري غنز للحفر وزادكين للنحت. وبعد ذلك التحق بأكاديمية «غراند شوميير» للرسم، حيث تخرّج وعاد إلى أفريقيا.
خامٌ وفجٌّ هو عارف الريس. بسيط ووديع، بريء وبارع في آن. يرسم، يلوّن، ينحت، وفي حالاته الثلاث هو أقرب إلى نظام الكتلة في اللوحة التي تفصلها خطوط قوية. أعماله تراوح بين الهندسة وحرية التعبير كالخطوط الحرة الملتوية، أي ثمة الإنسان والرمز، وثمة الواقع من دون أن يقع في التقليد.
تقنياته تبرز أساليب متعددة بدءاً من اللوحة الزيتية مروراً بالكولاج، وصولاً إلى الجداريات الضخمة وبعض منحوتاته المختلفة الخامات. اشتغل بالأبيض والأسود ومادة الأكريليك التي فضّلها على سواها كون الأكريليك مادة لزجة قابلة للتكيّف في تكوين الشكل.
أولى عارف الريس أهميةً قصوى للمادة التي يستعملها في تصويره هذا الموضوع أو هذا المناخ، إذ ربط بتأنٍّ كبير بين الحكاية والصوغ والمادة ليجعلها معاً الحالة التي يريد أن يعبّر عنها، أو أن يدلّ عليها. واضح جداً لمن يحمل ثقافة تشكيلية راهنة أي حديثة وطليعية، أن يكون الإنسان حاضراً في منظر طبيعي أو حتى في حذاء عتيق كما عند فان غوغ، وغائباً عن نصوص تضم أكثر من شكل إنساني، وعارف الريس كان يعلم جيداً الترابط العضوي بين الزخم التصويري والزخم الإنساني في الحدث التشكيلي. في بعض أعماله شفافية لونية كأنها الصدى لشفافية في وجدانه تجعله والمدى واحداً. وهذا ما جعل من عارف الريس حالةً فريدةً في الحركة التشكيلية اللبنانية، صوّر كأن عينه على أفق يتجدد بعيداً أو كأنه يمشي من عالم رؤيوي إلى عالم واقعي إلى عالم طبيعي ومن ثم رؤيوي: هنا مادي وهناك وجداني حتى البراءة.
نشأ الريس في بيت فنّي، فوالدته كانت ترسم، ووالده أيضاً. بدأ عصامياً واشتغل على نفسه. زارته بالمصادفة صحافية من جريدة «لوريان» لجورج نقاش. بعدما رأت أعماله غادرت، ثم عادت مع الفنانين جورج سير وهنري سيريغ، وكان لكل منهما حضوره الفاعل في بيروت تلك الأيام. عرضت أعمال الريس في قاعة «ويست هول» في الجامعة الأميركية، ثم نُقل المعرض إلى قصر الأونيسكو. في عام 1948، سافر إلى السنغال مع والده حيث أمضى أعواماً تسعة متنقلاً بين باريس وأفريقيا (أفريقيا والأدغال والأحراج على مسافة 1500 كيلومتر من أقرب مدينة) حيث كان يبتكر مواد التصوير من ألواح المازونيت وصولاً إلى البودرة المتداولة في الدكاكين بدلاً من الألوان الزيتية المصنعة وكان يمزجها بالغراء المحلي. والده التاجر الذي ألقى به نهاية أربعينيّات القرن العشرين، في بحيرات تتقاسم السباحة فيها نساء جميلات وتماسيح، كان قد فتح أمامه أبواب التجريب الحياتي ومن ثم الفني على مصراعيهما. لقد اكتشف أن هناك جمالاً خارقاً منذوراً للرعب. سوريالية الريس مستلهمة من الواقع، وكذلك حروفيته في مرحلة متأخرة من حياته، جسدتها منحوتاته في جدة وتبوك السعوديتين. عاش في أفريقيا وشاهد النحات الأفريقي جالساً على الأرض وفي يده إزميله وأمامه شقفة خشب، فبدأ ينحت مع الأفارقة ومثلهم تماماً حرّر عمله من كل تعقيد أكاديمي باتجاه العفوية المباشرة.
عرف الريس بنشاطه في المجتمع الفني اللبناني، فقد كان يدرس ويكتب ويشارك في المؤتمرات والمعارض المعنية بالأوضاع السياسية والفنية في العالم العربي. كان كثير الترحال، عكست أعماله البيئات والأماكن التي عاش وعمل فيها، كما عكست مراحله الزمنية، بدءاً من تأثير السنوات الأولى التي أمضاها بين لبنان والسنغال، مروراً بأسفاره ودراسته بين أوروبا والولايات المتحدة، وصولاً إلى عودته إلى العالم العربي وانتقاله بين بيروت والجزائر ومدينة جدة. التقط جوهر العالم من حوله في مجموعة من الأعمال التي تنبع من أعماقه السحيقة، التي عكس جانب منها الكثير من الصراعات السياسية في زمانه، كحرب الاستقلال الجزائرية والحرب الأهلية اللبنانية. مثّل الريس نموذجاً للمبدع الباحث عن الحرية والمهموم بأوجاع وطنه وأوجاع الإنسانية.

من المعرض الإسباني (نقلاً عن موقع معهد الفن الحديث في فالنسيا)

كان لرحلات الريس خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، في غرب أفريقيا، وتحديداً السنغال، تأثير رئيس على أعماله المبكرة، أثمرت عن تكليفه بتمثيل لبنان في المعرض العالمي في نيويورك عام 1964، حيث أنتج تمثالين ضخمين، وأمضى بعد ذلك بضع سنوات في الولايات المتحدة والمكسيك مواصلاً استكشاف أنماط التجريد.
شهدت مسيرة الريس الطويلة مروره بمراحل مختلفة وانتهاجه أساليب متنوعة في العمل من فنان سياسي تجسّدت قوة قناعاته في لوحات الستينيّات خلال إقامته في إيطاليا التي كانت تندد بوحشية المستعمر خلال حرب الاستقلال الجزائرية، إلى سلسلة «الدم والحرية» التي رسمها بعد فترة وجيزة من نكسة يونيو 1967، وتجلت فيها إمكاناته الإبداعية.
شخصيته الإنسانية والفنية والاكتشافية متعددة. لكن برغم شهرته، كان هامشياً خارج الاحتفالات والعلاقات والتجارة. لذا نجد أنه أكثر الفنانين اللبنانيين والعرب الذين عكسوا شخصياتهم الهامشية في أعمالهم، فضلاً عن شجاعته أمام المحرّمات الفنية، وتلك الهامشية المرتبطة بكل أعماله وسلوكه وحياته. كأنه رسم حياته بزهور الجبل. ليس مثل بول غيراغوسيان الذي اشتغل على موضوع المرأة الأيقونة مثلاً. هو طلع خارج المواضيع إلى الطبيعة والزهرة الضعيفة التي أصبحت نوعاً ما هشّة في الأزمنة الجديدة. رسم سوق العموم أي المرأة الضعيفة التي أجبرت على امتهان هذه المهنة، كأنه يقول لنا إنّ هذه السوق جزء من حضارة الشعوب (الحرية الجنسية) التي جعلها البعض خطيئة، فيما جعلها الريّس جزءاً من حرية الفرد والجماعة وجزءاً من مجتمع مهمّش ومكروه ومضطهد. رسم المومس عندما كانت بيروت عروس الحرية وملاذاً للمضطهدين. وفي أعمال أخرى، دافع عن القضايا الكبيرة. كان منفتحاً على كل الظواهر وضد القوانين الجائرة والعقوبات المتخلّفة على المهمشين. عارف الريس شخص حر احترم المرأة المكسورة الضعيفة ورصد تفاصيل المجتمع اللبناني سواء في الجبل أو في المدينة. حطم أسطورة «العيب» في لوحات المرأة المومس، ومن هنا نجد علاقات اتصال واستمرارية في مجمل أعماله الطالعة من حريته في قضايا الحروب والهزيمة والقتل والتهميش. بهذا انفرد الريس عن معظم الفنانين اللبنانيين الذين لم يتجرأ أحد منهم على رسم امرأة اضطهدتها بيئتها.
اليوم، تستعيد إسبانيا عارف الريس من خلال معرض يجمع مختارات من لوحاته ورسوماً بالحبر والكولاج، ومنحوتات أنجزها خلال أكثر من نصف قرن. ثمة إحساس فطريّ يخيم على الأعمال. إحساس نابع من عفوية التجربة وصدقها، تلك العفوية التي تترجمها خطوطه المتدفقة بحرية على سطح اللوحة وتغذيها مهنية عالية. يضمّ المعرض أيضاً أعمالاً تبرز تأثّره بالمناخات والرموز الأفريقية التي نفّذها بشاعرية في الخمسينيات، لطبيعة القارة السمراء عبر استخدام الألوان الحارة (رسم الأفارقة المضطهدين) والمجتمعات الهشة التي ما زالت تتعرض للاحتقار والقمع بين البيض والسود. لم يعترف الريّس بلون يحدد علاقته بالعالم، بل بالعلاقة الإنسانية (أفريقيا الفقر والقمع) وعدم الاعتراف بالإنسان. كما تعرض نماذج من جداريّاته التي تبرز احتجاجه على السلطة وسياساتها، إلى جانب أعمال الحبر والكولاج التي تحتوي على تكوينات جريئة مستخدماً صوراً فوتوغرافية ومطبوعات صحافية تحمل طابعاً ساخراً من الأوضاع السياسية في بلاده، كما يتناول بعضها وحشية الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975.
طغيان الأحمر عكس انحيازاته إلى المعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة


تظهر أعماله النحتية تجريباً عالياً يعكس مفاهيمه وفلسفته حول الوجود الإنساني، ورؤيته حول قمع السلطة بمستوياتها المتعدّدة للفرد. مواضيع عبّر عنها بأشكال مجسّمة تختبئ تحت جلدها وترتدّ على ذاتها، بأسلوب تعبيري. يجمع المعرض أيضاً مقالات حول الحوادث السياسية التي وقعت في ذلك العقد مثل «حرب الاستقلال الجزائرية» (1954 - 1962)، وسلسلة «البساط الطائر» بوصفها تنتمي إلى المرحلة الأميركية من حياته (1963 - 1967)؛ خمس سنوات حضَر فيها الأخضر والأرجواني كخلفية معبّرة عن مناظر الريف الأميركي التي نقلتها لوحتُه، قبل أن ننتقل إلى المرحلة اللبنانية التي بدأت من أوائل السبعينيات، أو قبل ذلك بقليل. هنا جاء الاشتباك مع الواقع السياسي العربي واللبناني المحلّي أكثر جلاءً وحساسية في أعمال مثل: «سلسلة الدم والحرية» (1967) المرتبطة بـ«نكسة حزيران»، و«زمن حديث وعالم ثالث» (1974)، و«الهالة» (1978)، إذ بدأ طغيان الأحمر يعكس انحيازاته أثناء «الحرب الباردة» إلى المعسكر الاشتراكي.

* معرض «أعمال عارف الريس: 1958 ــ 1978: حتى العاشر من أيلول (سبتمبر) ـــــ «معهد فالنسيا للفن الحديث» ivam.es/en/exhibitions