ثمة أزمة فنّية مستمرّة، على ما يبدو، ناجمة عن خفّة في التعاطي مع المستوى الفنّي في زمن انحطاطيّ ينال من الفنون جمعاء، في السينما والمسرح والموسيقى والأدب والشعر… ما خلا بضعة استثناءات مضيئة وسط العتمة الشاملة.‏لطالما كانت بيروت مختبراً للحداثة والتراث ومختلف مناحي التعبير. كانت رمزاً ومرجعاً، فتحوّلت إلى برج بابل فنّي يعلو فيه الصراخ العالي الفارغ على الصمت العميق المعبّر. لذا نحن في أمسّ الحاجة إلى عملية «إنعاش» لتستطيع المدينة استعادة نبضها فتحيا من جديد رمزاً للأصالة والإبداع الصافي، المجرّد والفنيّ.
عمل بدون عنوان لهلن الخال. «غاليري أجيال». بيروت

«خبيصة» ‏تشكيليّة ما شاهدناه ونشاهده في معظم الغاليريات والمعارض التشكيلية في بيروت. قلّة قليلة من المحترفين لعلّ أبرزهم معرض جان خليفة (1923- 1978) وهلن الخال (1923- 2009)، في مبنى الصفدي في «الجامعة اللبنانية الأميركية» LAU. ألقى المعرض الضوء على محطات بارزة في المسار الفني لكل من الخال وخليفة، منذ انطلاقتهما في الأكاديمية اللبنانية ALBA إلى مراحل النضج والتجريب والتطلعات التي عايشاها في غمرة القلق والصراع والتجديد والابتكار في خوض مغامرة التجريد.
أخذ خليفة الفن نحو التعبير باللون والحركة الدينامية للأشكال وتفجرات الخطوط متأثراً بالتجريد الغنائي في التجارب الفرنسية. في المقابل، أدخلت هلن الخال مفاهيم التجريد اللوني المتصل باللون وتأملاته الفلسفية في الفن الأميركي إلى المشهد التجريدي في لبنان. وأهمية المعرض تكمن في تنوع التجارب التي عكست التقاطع ما بين مدرستَي باريس ونيويورك، كما أنّه يؤكد على وجود القواسم المشتركة بين الفنانَين التي تكمن في عدم غياب الواقع كلياً عن تجاربهما، ولا سيما حضور الأنثى العارية والعلاقة التأملية بالطبيعة من زوايا قريبة إلى القلب والنفس. سوق الأعمال الفنّية باتت رفاهاً في بلد يرزح تحت مصائبه المعيشيّة. الغاليريات ما برحت تستقبل عشوائياً الفنانين وأعمالهم، فبتنا أمام حركة بيع وشراء لا علاقة لها بالإبداع والهدف الفنّي المجرّد.
شكّل معرض جان خليفة وهلن الخال نقطة مضيئة وسط هذه العتمة

‏تشهد المدينة أيضاً تكراراً في أسماء الفنانين العارضين موسميّاً، فهل هي ظاهرة صحّية تشكّل إضافة؟ لا بدّ في النهاية من التمييز بين الفنّي والتجاريّ من جهة، الإبداعيّ والمادّي من جهة أخرى. أكثر من صالة عرض تحوّل اللوحة والمنحوتة سلعة تجاريّة (لتزيين الصالونات مثلاً) وفي ذلك تجاوز صريح للفنّ في مفهومه الإبداعيّ المحض، ولا صلة له بالشروط والأصول والمعايير. وكثيرة هي المعارض لهواة أو لخرّيجي معاهد الفنون في لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وقطر. ونادرة جداً الأعمال التي استوقفتنا. مع ذلك، نلحظ لدى تجوالنا في المعارض أنّ المحترفين لم يأتوا بأفضل أعمالهم، وكان جديراً بأصحاب الغاليريات والهيئات المنظّمة أن تبدي حرصاً أكبر على انتقاء أعمال المواهب الشابة التي لم يلفتنا أيّ منها، إذ ظهرت هوّة واضحة بين الأعمال المحترفة وتلك الهاوية أو الجديدة المجرّبة وكنّا نأمل اكتشاف تجارب لافتة، نضرة، بينها، وخاب أملنا. والعبرة الأكبر من معرض كهذا: الكمّ لا يُنتج النوع بالتأكيد.
معارض تجمع تجارب فنية متعددة تنتمي إلى منابع ثقافية بصرية مختلفة. هذه التجارب تأتينا من لبنان ومن الدول العربية والعالم. وهذا الجمع من الفنانين وإن تباينت أعمارهم وتجاربهم الفنية، إلا أنها تطرح المغاير المختلف مستوى وأسلوباً وطرائق في التعاطي مع الخامات المستخدمة في الأعمال الفنية. أما في الصورة الفوتوغرافية بالشكل الكلاسيكي المتعارف عليه، فقد طرأت على هذه الصورة مفاهيم ورؤى جديدة وتخالطت الأفكار فيها بلقطة العدسة وبالتقنيات الغرافيكية الجديدة.
قليلة الإطلالات الجديدة الجديرة بالاهتمام التي حافظت فيها بعض صالات العرض على أصالتها ووفائها لذوّاقة الفنّ في المدينة، مثل غاليريات «جانين ربيز»، و«صفير زملر» و«عايدة شرفان» وآخرين.